السبت 2018/03/03

آخر تحديث: 11:16 (بيروت)

فارغو.. ما الذي يريد الثلج قوله؟

السبت 2018/03/03
فارغو.. ما الذي يريد الثلج قوله؟
يحاول المؤلف مع كل موسم أن يشحذ خياله في ترسيخ العنف
increase حجم الخط decrease
أصبح خبراً قديماً وكلاماً عديم الفائدة أن نبدأ حديثنا عن "تميز" أعمال الأخوين كوين في السينما، ولكن لا بدّ منه هنا كمدخل على مسلسل تلفزيوني مستلهم من فيلمهما السينمائي Fargo 1996 كونهما منتجا تنفيذيا للمسلسل.


أعادت إلينا شركة FX مؤخراً نوستالجيا البياض في فيلم الأخوين كوين "Fargo" بالعنوان نفسه، لكنها ليست القصة نفسها، بل مستلهمة من أجوائها وأماكنها. لمن شاهد الفيلم سابقاً سيتخيل أن المسلسل في مواسمه الثلاثة، والذي بدأ بثه في الشبكة التلفزيونية وشبكات أخرى كبرى منها نيتفليكس وHBO العام 2014 هو إعادة صنع فيلم فارغو، لكنهُ ليس كذلك حقيقةً، مع أن أجواءه تتقاطع وبشكل مثير مع أجواء الفيلم، بل إن هذه المسلسلات هي امتداد أو تتشابك مع قصة الفيلم في بعض الجوانب.

شاهدتُ الفيلم أكثر من مرة، ومؤخراً قبل مشاهدة المسلسل، وفي كل مرة أصل إلى قناعة بأن الأوسكار الذي حصلت عليه الممثلة فرانسيس ماكدورماند، عن دور الشرطية مارغي، كان عن جدارة في عبقريتها في تجسيد "العادية" إلى حد الإرباك. هذه "العادية" التي يستثمرها المسلسل في مواسمه الثلاثة، مع أداء ممثلين لم نتعود منهم "العادية". يتجلى سحر بعض الأعمال الفنية في السينما والتلفزيون بالقليل من الحوار والكثير من الصور. وفي فارغو، لا حوارات طويلة كما اعتدنا في مسلسلات التشويق والدراما. الصورة ومشهدية اللاشيء تتسابق مع بياض الطبيعة الباردة في مينيسوتا، حيث لا حياة ناطقة سوى البياض. البياض الذي صوره الأخوان على مدى البصر مع طعنة مغروسة في قلبه بـ"قاشطة" ثلج حمراء. هذا اللون الأحمر الذي سيكون مفتاحاً لعابر سبيل إلى مصيره ومصائر آخرين.

يبدأ المسلسل بالعبارة نفسها التي يبدأ بها الفيلم، وهو تنويه بأن أحداث المسلسل حقيقية وقعت في السنة الفلانية وتم حجب أسماء الشخصيات وتغييرها احتراماً للضحايا والناجين من هذه الجرائم، رغم أن هذا الادعاء أثار جدلاً في وقت عرض فيلم "فارغو" في التسعينات، وتنامى الجدل مع إصرار الأخوين على أن أحداث الفيلم حقيقية لكنهما قدما الشخصيات في قالب عمل خيالي ابداعي. ويستمر هذا الجدل ليطاول قصص المسلسل وجدوى هذا الادعاء، ما لم يُثبت في الواقع. ويبدو أن الأخوين يجدان في هذه العبارة ترسيخاً للخيال أكثر منه للواقعية، إذ كمشاهدة، تحرضني هذه العبارة على التساؤل إن كان حصل هذا فعلاً في الواقع أم لا. ومع تنامي أداء الممثلين في جميع المواسم وبراعتهم في تجسيد هذه "العادية"، يقتنع المشاهد بعد حلقات بأنه لم يعد مهماً التأكد من واقعية القصص بقدر ما هو مهم تتبع هذا التنامي العجيب في أداء الممثلين نحو الواقعية السوداء.


القصص متداخلة، وفي موسم تعود الذاكرة لتنبش أصل قصة أخرى كانت قد بدأتها في الموسم الأول. وهذا الربط والتشابك بين الأحداث غالباً ما يكون محكماً رغم أن، مؤلف المسلسل Noah Hawley، يتركنا في بعض اللحظات في حيرة من أمرنا عن مصير بعض الشخصيات.

حيث لا مكان في السينما، هناك حتماً مكان في التلفزيون. هذا ما تقولهُ المسلسلات الجديدة من بطولة نجوم سينما. يعود بيلي بوب ثورنتون للتعاون تلفزيونياً هذه المرة مع الأخوين بعد فيلمه معهما The man who wasn’t there العام 2001 وأفلام أخرى، ولم يكن اداؤه الأفضل على ما يبدو. لقد بدا ثورنتون في فارغو، "القاتل الحكيم" لورنمالفو، متعباً وغير آبه بما يحدث، وكأنما كان ينتظر "النهاية" بفارغ الصبر. النهاية التي ستضع الأجوبة لأسئلة لم تُطرح ولا يجب طرحها طوال مدة المشاهدة. خلافاً لما يقوله البعض أن السؤال محرك الحياة، في فارغو نعيش الأجوبة كسؤال.

تحدثتُ في مقال سابق عن حمى مسلسل "Breaking Bad" وكيف أن الواحد منا لا يعود نفسه بعد مشاهدته. في فارعو لا حمى، من فرط بياض الثلج ووضوح الفراغ أمام عيوننا. غالباً، وعلى عكس المتوقع، بعد كل مشاهدة، سنعود إلى أنفسنا التي لم نألفها أو صرنا نتجاهلها. نعود كما ألفنا نفسنا، تارة بستايل شعر كريستندانسيت "بيجي" وهوس الحديث مع الظلال وزوجها الجزار، ومرة أخرى مع علاقة حب غريبة تجمع شابة حسناء بضابط "ساذج" وشخص غير جذاب يتابع قضايا المدمنين.

يحاول المؤلف مع كل موسم أن يشحذ خيالهُ في ترسيخ العنف كواقع أبيض في سباق ملحوظ مع مسلسلات مماثلة تتخذ من العنف قاعدة لها. ومثل تنامي أداء الممثلين، تتنامى أساليب الجرائم المرتكبة والقتل على خلاف ما نتوقع، نصل مرحلة سنشعر بقطعة الحديد تلامس أسناننا عندما يحركها المليونير ذو ملف الجرائم الغامضة V.M.Varga “David Thewlis”  على أسنانهِ المتهالكة.

وخلافاً لما نتوقع من تجاهل لقضايا اللحظة والانغماس في الجرائم والعنف، فالنسوية حاضرة بقوة في المسلسل عبر شخصيات جسدت شرطيات يواجهن التجاهل والاستخفاف وسط بيئة تحكمها الذكورية وبرودة الثلج. لكن على غير المتوقع أيضاً، لا يتم التعامل مع هذه القضايا بطريقة تعبوية وتقليدية، بل بطريقة لا تجعلنا نشفق على الطرف المغلوب. وهذا كان أفضل ما يمكن تقديمه فنياً للقضايا العادلة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها