الخميس 2018/03/29

آخر تحديث: 15:51 (بيروت)

شارل بيل: المزارع المتأمل

الخميس 2018/03/29
شارل بيل: المزارع المتأمل
يجد بيل في الطبيعة جسداً وكائنات شبقية
increase حجم الخط decrease
إذا صح إطلاق لقب على الرسام شارل بيل (فرنسا، 1956)، فمن الممكن القول أنه "المزراع المتأمل". فمنذ أكثر من أربعين عام، استمر في رسم منبته، أكان قريته، أو أي مساحة خضراء، يتنزه فيها. علاقته مع الطبيعة هي علاقة زراعية بإمتياز، وهذا ما لا يرتبط بكونها موضوعته الأولى والأخيرة، بل بكونه، ولكي يحملها إلى لوحاته، أقلع عن استعمال الريشة أو فرشاة الدهان، والإستعاضة عنها بأدوات شبيهة بأدوات الحراثة، والبذر، والجرف، والتقليم، والري، يستعملها في فلاحة الأقمشة البيضاء، أما، قطفها فيتركها لمتذوقيها. لهذا، يقول بيل إنه لا يرسم بيده، بل بذراعه، الذي يحركه على تلك الأقمشة، مرةً، بسرعة، مرةً، ببطء، من أجل أن يجهزها لتخرج خضرتها على أكمل وجه.


وبالتوازي مع الزرع، هناك التأمل. إذ إن بيل يجلس في حديقة منزله، ورشة عمله، الواسعة، أو يطوف بها، متلبثاً في طبيعتها، التي يعتني بها. يتوقف عند العشب، وعند الشجر، ينظر إلى الزهر، وفي الكثير من الأحيان، ينتظر هطول المطر، أو يترقب دفء الشمس. على عادة الريفيين القدامى، يتصل بالطبيعة كأنها حضنه، كأنها مأواه، الذي ولد وعاش فيه، وتغير مع تغيره. ثمة، في هذا الإتصال، ضرب من الإيروتيكية، التي تكاد تطبع كل رسوم بيل. ففي أغلب الوقت، تتدرج هذه الرسوم، بلونها وضوئها، فضلاً عن خطها، من سكونها إلى انبثاقها، من الهمود إلى النشوة. وربما، تكون الأزهار، التي رسمها بيل، هي التعبير المباشر عن تلك الإيروتيكية، لا سيما أنه ينعتها بكائنات الشبق، التي يختزلها بتفتحها، وبتضخيمها.

يجد بيل في الطبيعة جسداً، لكنه، ولكي يفعل ذلك، يرى في رسمه، في مواده تحديداً، عناصر عضوية أيضاً. عندما يتحدث عن اللون الأبيض في لوحاته على سبيل المثال، يشير إلى أنه ليس سوى أبيض ساخن وطازج، كما لو أنه يتحدث عن اللبن، الذي يستحصل عليه من مدرات الطبيعة. وليس صدفة أنه، ولكي يؤنس نفسه في منزله، ورشة عمله، أقدم على تربية الأبقار والثيران، بحيث يجلس بقربها ويرسم. فإلى مرسمه، أضاف حظيرة ماشية، منتقلاً من الزرع إلى الضرع، أو من الزراعة الأرضية إلى الزراعة الحيوانية، مؤمناً حاجاته الرسمية منهما. 
تنوعت موضوعات بيل الطبيعية، وهو، من مرحلة إلى أخرى، يفلح في عنصر بعينه: جذوع الشجر، والفواكه، والخضار، والنبات الميت تحت الأرض، والعشب المحروق بأشعة الشمس، والبذور، عدا عن العناصر الأربعة، والحيوانات... كما أنه يعمل، وتماماً كالفلاحين، بحسب المواسم والفصول. ومع هذا، وعلى الرغم من انخراطه في الزراعة، من الممكن أن يبتعد عنها قليلاً لكي يرسم ذاته، وخلال ذلك، يرتاح إلى وجهه، ويكافئه. إلا أنه يفعل هذا على نفس منواله الفلاحي، أي أنه، ومن رسم ذاتي إلى ثانٍ، يزرع هيئته، ويسقيها، ويداريها، قبل أن تثمر عنه، تاركاً إياها معلقةً على غصن غير مرئي، أو مدفونةً تحت تراب شفاف. فأي كانت الموضوعة، التي يرسمها بيل، هي موضوعة تنبت، وتطلع من الأرض، لتتلاصق بها، أو لتعلوها.


طبعاً، لا يهتم بيل بتصوير الطبيعة، أو بتمثيلها الحرفي والمباشر. الأمر الوحيد، الذي يبالي به، وكما يردد دائماً، أن يكون النظر إلى لوحاته نظراً حسياً، وبعبارة أخرى، أن يجري قطفها بعيون الوجدان، الذي بمقدوره أن يشعر بشدتها. فبعد أن يرسمها بذراعه، على متناولينها أن يقطفوها بلا أن يعمدوا إلى استئصالها. يطلب بيل منهم الوقاية في قطفها، خصوصاً أن رسمه، في نهاية المطاف، ليس سوى حفظ لها، حفظ للطبيعة، التي يتعقب مقالبها ومآلاتها، مدركاً كيفيات التفاعل معها، مسمياً إياه "التفاعل الغريزي".

يبقى أن افتتاح معرض شارل بيل في غاليري "أليس مغبغب" في 10 نيسان، بعنوان "رسم كل لحظة" (سيجري عرض أفلام فرنسوا رواييه عن بيل ابتداءاً من 8 نيسان)، قد يكون فرصة للتعرف على رسم ريفي، لا علاقة له بالرسم الريفي المحلي. ذلك، أنه غير حاضر على محمل مهجوس بالوعظ والمدح، بل على محمل فني متفلت من غاياته الدعائية، حيث الطبيعة تتكلم مع أحد العالمين بها، والعاملين فيها، مثلما تتكلم عبره.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها