الأحد 2018/03/25

آخر تحديث: 10:09 (بيروت)

ومن بعدنا الطوفان... حكايات نهاية البشرية

الأحد 2018/03/25
ومن بعدنا الطوفان... حكايات نهاية البشرية
لم يشهد أحد أبداً بداية العالم ونهايته،
increase حجم الخط decrease
في الأبوكاليبس الفارسي، ليس ثمة بلاغة اعتيادية في خطاب المؤمن الذي يسأل ربه: «أيا أهورامزدا، بالنسبة للحاضر والآتي/ هل يمكنني أن أسألك كيف سيتم التعامل مع الصالحين/ عند الحساب الأخير، وكيف سيكون حال الطالحين؟»، ولكن شعورًا عاطفيًا يأسر من يقرأه، ويدفع به للبحث عن جمال ما مؤثر، تمثله اللغة، وإن لم تحتو على صور بيانية مدهشة.

إن قلق الخائف من المستقبل، لا يعكسه سؤاله المتأخر عن مصير الصالحين والفاسدين، وإنما تقديمه مفردتي «الحاضر والآتي» لتتصدرا خطابه، وتحملان قلقه ذاته إلى غيره من المشغولين بالنهاية، حيث إن «فكرة الفناء التام مرعبة أكثر مما يُحتمل»، فلا يبدو السؤال عن معرفة مصير ما بعد الموت إلا رغبة في الاطمئنان على استمرارية الوجود، بغض النظر عن ماهية ذلك الوجود؛ نعيمًا كان أو جحيمًا، فمنبع التأثير في متلقي هذا النص، وغيره من النصوص الكثيرة التي امتلأ بها تراث الإنسانية، هو إثارته لمسألتي الفناء الدنيوي والحياة الأخرى اللتين لا تزالان تشغلان العقل البشري رغم ما وعدت به الأديان من جهة، وما توصل إليه العلم من تحديد بيولوجي لأسباب الموت من جهة أخرى.


في كتابها «ومن بعدنا الطوفان.. حكايات نهاية البشرية»*، تستعرض الباحثة الهولندية مينيكه شيبر، ما افترضه البشر حول نهاية عالمهم، عبر ثلاثين صيغة ما بين أساطير ونصوص دينية، مقسمة إلى جزأين، يضم الأول 16 نصًا حول نهايات الماضي، ويضم الثاني 13 نصًا عن النهاية الآتية، وبينهما فاصل بعنوان «كيف تحاشت الآلهة النهاية». والمتأمل لهذه النصوص جميًعاً، سيجد أنها ترتبط كليةً بالطوفان الذي اجتاح العالم في بدايته، وأخبرت عنه الأساطير والديانات على السواء. فالبشري الذي مر بتجربة الطوفان المدمر، يرسم الصورة الأولية لنشأة الكرة الأرضية، استنادًا لما رآه بعد نجاته، واعتبره بمثابة بداية جديدة للحياة، حيث الأرض وقد صارت كلها عبارة عن محيط لا نهائي، فإنه من الضروري ألا يكون العالم الأول –وفق مفهومه- غير«مائي، موحل وسبخ». وهكذا فإنه لا يتصور –أيضًا- النهاية القادمة غير ذلك، وربما قد يعود التفسير البشري للأمر إلى مرحلة أقدم من مواجهته الكارثة الكونية، حيث «فسر المحللون النفسيون انفجار غشاء السائل المحيط بالجنين على أنه أول طوفان نهرب منه.

لم يشهد أحد أبدا بداية العالم ونهايته، لكن الناس يعرفون أنهم وُلدوا وأنهم حتما سيموتون. وفي الأساطير يُسقطون موقفهم الفردي على الكون.


في كتابه «مغامرة العقل الأولى» يرى فراس السواح أن الأسطورة وجدت «لتقديم الأسباب الكامنة وراء الكثير من الظواهر التي يراها الإنسان في العالم الواقعي»، وحيث إن أدبيات الإنسان الأولى اتفقت جميعًا على مرور الكرة الأرضية بطوفان مدمر، فإن فريقًا جيولوجيا برئاسة الفائز بجائزة نوبل لويس ألفاريز وابنه، درس تلك المسألة على أساس من الرؤى العلمية الجديدة، بحسب شيبر، التي تشير في كتابها إلى أنه «منذ حوالي 9500 عام أتى مُذنَّب ضخم طائرا واصطدم بالأرض، متسببا في حدوث زلازل وأمواج تسونامي وانفجارات بركانية وأعاصير من الهواء الساخن والغاز السام والنشاط الإشعاعي والأمطار الحمضية والحرائق العالمية والشموس المعتمة والنجوم الساقطة والفيضانات والشتاءات المتجمدة والعواصف الثلجية في أماكن عديدة؛ ونتجت عنه وفيات جماعية للناس»، وانقسم رأس هذا المُذنَّب إلى «سبعة أو تسعة أجزاء قبل أن تضرب الأرض» وهو الأمر الذي يفسر تصوير القصص الأسطورية في شرقي وجنوب شرق آسيا بداية الطوفان بتنين سماوي أو بثعبان ذي رؤوس عديدة، يتلوى أو ينزلق في السماء. ويفسر كذلك ما جاء في سفر«رؤيا يوحنا»، وهو آخر أسفار الكتاب المقدس، من وصف الحادث نفسه ثلاث مرات، مصورا ثلاث صدمات جزئية تأتي إحداها في أثر الأخرى، لأنه وفقا للنتائج الجيولوجية «فإن الشهادات الشرق أوسطية في قصص الطوفان كان يمكنها منطقياً فقط أن تتحدث عن ثلاث صدمات، لأن الصدمات الأخرى حدثت على مسافة بعيدة لدرجة أنه لم يكن من الممكن رؤيتها من هناك».
 

في الصيغ الثلاثين، المجموعة من قارات: أسيا، وإفريقيا، وأوروبا، والأميركتين، ومنطقة أوقيانوسيا، والتي تضم نصوصًا من الكتب الدينية الثلاثة التوراة والإنجيل والقرآن، ثمة تشابه واضح -يكاد يصل إلى حد التطابق في بعضها- لا يفسره فقط فرضية انتشار قصة النبي نوح والسفينة تدريجيا في كل مكان في العالم على يد المبشرين، حيث تشير الأكاديمية الهولندية إلى أن بعض الأساطير نشأت في مناطق لم يزرها المبشرون قبل صياغتها وتناقلوها على ألسنة الرواة، لكن فرضية نيزك الجيولوجيين، قد تبدو الأقرب، لتفسير التشابه السردي للرواية، إذا تعاملنا وإياها وفق نظرية «التحدي والاستجابة» لأرنولد توينبي، والذي يفترض أنه على قدر مواجهة الإنسان للظروف التي تواجهه في بناء حضارته، تكون استجابته إما ناجحة إذا تغلب على هذه المصاعب، أو فاشلة إذا عجز عن التغلب عليها، ومثل استجابته التي قد تتشابه في الظروف الواحدة وإن اختلفت بيئتها، فإن تفسيراته للظاهرة الواحدة قد تتشابه أيضًا وإن اختلفت أماكن نشأته.

غير أن أهمية ذلك الكتاب لا تتبدى في نفيه أو إثباته واقعية حادثة الطوفان، المسيطرة على رؤية الإنسان لبداية الكون ونهايته، لأن شيبر التي قدمت لنصوصه بدراسة نظرية غير قصيرة، لم تبتغ الإثبات أو النفي بقدر ما حاولت الإجابة على السؤال الخاص «إلى أي حد نحن قادرون على التعامل مع الموت، على مستوى جزئي وكذلك على مستوى كلي»، وهو السؤال الذي تبرز أهميته وأهمية الكتاب ذاته من إتاحة النصوص كلها –والتي قد تكون معروفة كل على حدة- في مؤلف واحد أمام القارئ، ومن ثم يصبح السؤال الذي يطرحه الكتاب هو سؤاله الشخصي الذي يطرحه على نفسه.

(*) صدرت الترجمة العربية للكتاب، عن دار صفصافة في القاهرة، بترجمة بديعة للشاعر عبدالرحيم يوسف مباشرة من اللغة الإنكليزية، حيث إن مينيكه شيبر تؤلف كتبها أولًا باللغة الهولندية، ثم تعيد كتابتها بالإنكليزية لتصدرها في طبعة أخرى.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها