السبت 2018/03/24

آخر تحديث: 10:57 (بيروت)

رحيل المفكر الإيراني داريوش شايغان: مُطلِق "حوار الحضارات"

السبت 2018/03/24
رحيل المفكر الإيراني داريوش شايغان: مُطلِق "حوار الحضارات"
جامع للثقافات الفارسية، فالتركية، فالروسية، الإنكليزية إضافة إلى الفرنسية
increase حجم الخط decrease
رحل المفكر والأكاديمي الإيراني(الفرنسي) داريوش شايغان، ‫عن 83 عاماً. وهو متخصص في الفلسفة المقارنة. اشتهر بكتاباته عن الحضارات الشرقية وعلاقتها بالحضارة الحديثة وطريقة تمثلها للحداثة الذهنية وقيمها والاختلافات الكبيرة في بنية هذه الحضارات لدرجة التناقض، هو أول من استخدم مصطلح "حوار الحضارات" وذلك في مؤتمر عقد في طهران 1977 وهو المفهوم الذي اعتمده لاحقاً الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي.

وربما تكمن أبرز سمات شايغان في الهويات المتعددة والكوزموبولوتية وكثافة الأفكار والمصطلحات، وهو يقول لا توجد إلا حضارة واحدة: تلك هي الحضارة الحديثة، شئنا أم أبينا. إنها عالميةٌ وتُحيط بنا مِن كل جانب. وليس هناك مِن هوياتٍ خالصةٍ – جميعنا لديه هوياتٌ مُتعددة. وفي أحدى محاضراته يقول: اليوم ليس لدينا إلا عالمٌ واحدٌ وتاريخٌ واحد. عندما خرج ماركو بولو في رحلاته البحرية الاستكشافية، ذهب الى عوالم مختلفة: فإيران كان لها عالمها الخاص، والهند لها عالمها الخاص، وهكذا. أما اليوم فلا يمكننا في أبعد الأحوال إلا أن نتكلم عن أفلاكٍ مختلفةٍ من الوعي والإدراك؛ عن أن تكون صينياً أو يابانياً. والهند دولةٌ روحانيةٌ، وبلدٌ لو وجوده، وهي طريقته ليكون في هذا العالم، لكنّ هذه الطريقة للتواجد في العالم غير مرتبطةٍ بسياقاتٍ محيطيةٍ مُتفرّدة. ونحن نرى الشيء نفسه في كل مكان – نفس الطرق ونفس المدن ونفس المطارات. وفي كتابه "هوية بأربعين وجهاً"، يسأل: "هل تحتاج انسان عصرنا الى هوية بأربعين وجها، لكي يلبي حاجات الواقع المركب والمعقد الذي يعيش وسطه". يجيب شايغان بأن "الفضاءات التي تصنعنا، فضاءات متنوعة غير نقية، لم تعد جذورنا واحدة، ولم نعد نعيش لوحدنا في أرض مغلقة، إننا ريزومات متصله بالآخرين وثقافاتهم وعوالمهم ومداركهم المتنوعة".  
اتسمت شخصية شايغان بالتركيب الشديد، لجمعه بين ثقافات عديدة، إن من جهة الانتماء والتلقي الأولي، وإن من ناحية الحضور والفاعلية، والدة من الأقلية الأذرية، وأمّه تنحدر من سلالة أمراء وسلاطين جورجيين، ثقافتها روسية قوقازية، هربت عائلتها بعد الثورة الروسية 1917. حين كان طفلاً دخل مدرسة تبشيرية فرنسية، يصف بيت طفولته الذي جمع مدرس الموسيقى الأرمني الإيراني، وطبيب العائلة الزرادتشي، والسائق الآشوري، واختلاط الإيرانيين في منزله بالمهاجرين القوقازيين والروس بــ"مأدُبة طويلة".



وشايغان إيراني المولد، فرنسي المحيا، جامع للثقافات الفارسية، فالتركية، فالروسية، الإنكليزية إضافة إلى الفرنسية. يجيد السنسكريتية، مُلمّ بأغلب آداب التصوف والعرفان الشرقي الهندي، مطّلع على مصادر الثقافة الإيرانية التقليدية، والثقافة الإسلامية، بالإضافة إلى الثقافة الغربية في سياقاتها الفلسفية والأدبية الأساسية، دارس للحداثة ومتتبع لمكوناتها الجوهرية. كذلك اهتمّ بالميراث الفلسفي والعرفاني الإسلامي - الشيعي، من خلال  تتلمذه الشفاهي على آخر حكماء الموروث الإيرانيين، وهم: محمد حسين الطباطبائي، السيد جلال الدين آشتياني، أبو الحسن رفيعي قزويني، مهدي إلهي قمشهاي. فقد واظب على حضور حلقاتهم النقاشية ومجالسهم الخاصة، وارتبط بعلاقة وثيقة معه.

في بدايته كان يريد دراسة الطب نزولاً عند رغبة والديه، وفي منتصف السنة الدراسية اكتشف أنه غير قادرة على الاستمرار في الدراسة المرجوة، كان يميل الى الآداب والفنون والفلسفة، لكنه لا يجرؤ على التمرد على ما يرجوه له والداه. فوجد أن الالتحاق بكلية العلوم السياسية هو الحل الوسط، وبحسب شايغان: "هنا بدأت الانطلاقة الفعلية لحياته العلمية"، فدرس في آن واحد الحقوق والفلسفة وعلم اللغة. وحرص على الاشتراك مع الفصول الدراسية للأساتذة الكبار في جامعة جنيف، حيث كان الحياة العلمية وقتئذ شديدة الحيوية، فحضر على عالم النفس الفرنسي جان بياجيه، واكتشف غوستاف يونغ.

تأثير هنري كوربان
التقى شايغان بالمستشرق الفرنسي هنري كوربان العام 1961 من خلال زميله سيد حسين نصر، بعدما التحق، بحلقة "أصحاب التأويل" في منزل السيد ذو المجد الطباطبائي في طهران. وسيكون لكوربان تأثير مهم في حياته العلمية، فالأخير كان يعيش بعقائد عميقة، كأنما يبصرها في عالمة الجواني. وشجعه على دراسة العلاقات بين الديانات والثقافات الهندية والاسلام، والاطلاع على الترجمات الفارسية للنصوص السنسكريتية الكلاسيكية، في العصر الذهبي للعلاقات الهندية الاسلامية في القرنين العاشر والحادي عشر. لاحظ شايغان بعد دراساته المعمقة لميراث الهند، والديانات والثقافات الهندي، بأنه لا يصح القول إن الهندوس غير موحدين، لأن ثمة آلهة اخرى في هذه الديانات يمكن أن تعد صفات وأسماء للإله الواحد المحوري.

في العام 1976 أسس المركز الإيراني للدراسات الحضارية. وتحت إشراف كوربان؛ شغل بعدها منصب أستاذ كرسي الفلسفة المقارن في جامعة طهران، وهو كان بعد عودته الى طهران التحق بـ"الغينونيين الايرانيين الاسلاميين" وهم مجموعة من المثقفين، درس معظمهم في أوروبا والولايات المتحدة، واستعاروا رؤية الفيلسوف رونيه غينون وانبهروا بأفكاره، لقد كان الغرب يمثل بالنسبة إليهم القوى الشيطانية، في حين يمثل الشرق الأنوار الجوهرية.

لم يكف شايغان عن مواكبة التحولات الجديدة في المعرفة البشرية، كما يمتلك جرأة فائقة في تحديث مرجعياته، وتجديد أدواته النقدية، والعودة الى عقله. يعترف شايغان في كتابه "ما الثورة الدينية"، بخطئه في انتمائه الى "الغينونيين الايرانيين الاسلاميين"، قائلا "لقد انتمينا الى هذه المجموعة كما انتمينا الى مجموعة الهايدغريين الايرانيين الاسلاميين، وانخدعنا مثلهم بحنين الماضي الجذاب. لكن اطلاعنا الدؤوب على تحولات الفكر الغربي، أبعدنا عن هذه المجموعة، وجعلنا ندرك يقينا أن خمسة قرون من العلمنة لم تكن من دون فائدة للبشرية. في المرحلة الأولى كنت أنوح أيضاً. نعم! لأني كنت أخشى أن تنهار حضارتنا. أعترف في بعض الأحيان لدي تقييمات نابعة من حس الحنين". يقول بصراحة: "كنت على الدوام في تغيير متواصل". ويكتب في محل آخر: "أنا على الدوام في تحول فكري لا يتوقف".

في المرحلة الثانية تجاوزت مرجعيات شايغان الفلاسفة الغربيين الذين استلهم مقولاتهم في المرحلة الأولى، إذ تعاطى في المرحلة الثانية مقولات ميشال فوكو، وتوماس مان، وباشلار، وألتوسير، وأدورنو، وهوريكايمر، وهابرماس... أما في المرحلة الثالثة فقد تنوعت إحالاته المرجعية، فاستوعبت معظم الآثار المهمة للفلاسفة والمفكرين والأدباء الغربيين مثل دولوز وغاتاري. ويمكن اعتبار هذه المرحلة في مسيرة شايغان الفكرية امتداداً للمرحلة الثانية، غير ان رؤياه النقدية فيها اتسعت وتجذرت، وأمسى قادراً على استبصار تشوهات المجتمعات الشرقية والغربية، وأقلع بشكل تام عن الوعود الخلاصية التي كان يحسب أن الحضارات الآسيوية تبشر بها، تبعا لما تختزن مواريثها من ذخائر معنوية وروحية. ولاحظ عطالتها التاريخية، وعجزها عن طرح الاسئلة، ووفرة الأجوبة الجاهزة لديها.

لم يؤمن شايغان بثورة دينية ترجع بنا الى الخلف، وإنما بثورة تنويرية تقذف بنا الى الأمام. إنه يعمل من أجل اسلام عقلاني مختلف عن الإسلام المذهبي القديم الراسخ الجذور. وبالنسبة إلى شايغان فإن الاسلام تعرض كسائر بنى الحضارات التقليدية الكبرى، للأدلجة، وتحديداً أدلجة "المأثور الديني"، وهي أدلجة تنطوي على التقهقر والانحدار وصعود نزعة ظلامية جديدة.

طرح شايغان في كتابه "ما الثورة الدينية الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة" رؤيتين: الأولى، توسيع إطار الحضارات التقليدية أو ما يسميه "التجمع الروحي الواحد" حيث إن الحضارات الإسلامية والهندية والصينية تتميز بتجانس بنيوي في التجربة الميتافيزيقي. والثانية، اعتماد رؤية حضارية شاملة للثقافات الشرقية والغربية، عزز خلاصته هذه في كتابه "الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية" محاولاً التحقق من جملة إشكاليات: هل الهيمنة الحاسمة للتفكير الغربي تساعد على التواصل بين الحضارات؟ لماذا لم يظهر العلم الحديث بمعناه الغربي في هذه الحضارات إطلاقاً؟ ما هي الفوارق الأساسية بين مقولات الرؤية "الأساطيرية" التي تمثل العنصر السائد في التفكير الآسيوي والتفكير الفلسفي في العالم الغربي؟

عُرف شايغان في المنطقة العربية بعد ترجمة أعماله للعربية، وكانت أفكاره قد ظهرت قبل ذلك في كتابات عدد من المنظرين العرب، وأثارت الآراء التي طرحها نقاشات عديدة بين المثقفين العرب، وهو وضع مجموعة من المؤلفات في اللغة الفرنسية نُقل عدد منها إلى العربية، منها عن دار الساقي "النفس المبتورة: هاجس الغرب في مجتمعاتنا" (1991)، "أوهام الهوية" (1993)، "ما الثورة الدينية؟ الحضارات التقليدية في مواجهة الحداثة" (2004) وكتاب عن دار الهادي "الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية" (2007)، و"هوية بأربعين وجهاً" عن دار التنوير (2006). أصدر في العام 2012 كتاباً في الفرنسية (La Conscience métisse) "الوعي الهجين. وحصل على عدد من الجوائز أهمها جائزة الحوار العالمي عام 2009، وحصل العام 2011 على الميدالية الفرانكوفونية في الأكاديمية الفرنسية. كما فاز بجائزة اتحاد الكتّاب الفرنسيين عن روايته "أرض المعراج" في 26 ديسمبر 2004.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها