الخميس 2018/03/22

آخر تحديث: 14:26 (بيروت)

نعيم مهيمن.. لقاءان وجنازة

الخميس 2018/03/22
نعيم مهيمن.. لقاءان وجنازة
ما لم ينحز "عدم الإنحياز" إليه، رجع وظهر فيه كأنه صميمه.
increase حجم الخط decrease
غالباً ما يجمع الفنان نعيم مهيمن في أعماله منظورات ثلاثة: الأول توثيقي، موضوعه حقبة زمنية، أو جوها تحديداً، والثاني تأليفي، يرتب واقعاتها، والأخير نقدي، يقوم بسؤال عن تبدل محمولها. وغالباً ما تتأرجح هذه المنظورات، وعندما تنتج فيلمها أو صورتها أو نصها، بين الحنين وقطعه، الأمر، الذي يسوي مجملها على سؤال بعينه، وهو "ماذا حدث؟"، أي على القص. كل هذا، من الممكن التنبه إليه في شريط "لقاءان وجنازة" لمهمين، محاولاً، وعلى طوله، أن يقف على مردات الإخفاق، الذي أصاب مشروع "عدم الإنحياز" إلى المعسكرين الأميركي والسوفياتي خلال الحرب الباردة، وكيفيات تبدله من حركة لتحرير العالم الثالث إلى سياق لتقييده.

تتوزع المنظورات الثلاثة على الشاشات التي عرضت الشريط. كل منظور له شاشته، التي لا تنفصل عن الشاشاتين الأخريتين، بل إنها، وفي الكثير من الأحيان، تذهب صوبهما، وتأخذ مكانهما. ثلاثة منظورات على ثلاثة شاشات، وعلى المشاهد أن يتتبع لعبة الكر والفر بينها. فالمنظور التوثيقي، الذي يتمحور حول القمة الرابعة لقمة "عدم الإنحياز" (أيلول 1973-الجزائر)، يقدم بياناً عن حقبته الزمنية، وعن جوها التي تشيع خطبات الإستقلال عن الإستعمار والكفاح ضد الإحتلال وتقرير المصير والتنمية. لبناء هذا البيان، يستعين مهيمن بالأرشيف طبعاً، لكنه، وبالفعل نفسه، يزور عمرانه في حاضره الخالي: الذين لم ينحازوا في هذه القاعة، لم يعودوا هنا، لقد اختفوا!


على أن المنظور التوثيقي، ومع أنه طغى على الفيلم بشاشته، غير أنه لم يقم بلا المنظور التأليفي، بحيث أن مهيمن أضاف على قمته الأساس مؤتمراً، أي مؤتمر "منظمة التعاون الإسلامي" (العام 1974، باكستان)، وبالتالي، يجهد في قياس الصلة بين القمة والمؤتمر، وهذا القياس هو الذي ألف حبكة القص، كما لو أنه رابط أجزائه، ومنسقها. إلا أن القياس، هنا، لا يستوي على المقارنة بين "عدم الإنحياز" و"التعاون الإسلامي" فقط، بل على إبداء الإستمرارية بينهما، ليس بسبب التشابه الإيديولوجي، ولكن، بسبب أطوار العالمين، الأول والثاني، اللذين قررا التكتل داخلهما، ومجابهتهما، بدون اعتماد لسياسة لا تمت لسياستهما بتطابق من ناحية الهرمية، أو من ناحية بغية السيطرة.

بهذا، يستهل مهيمن منظوره النقدي، الذي، وحين يأخذ على عاتقه البحث في فشل "عدم الإنحياز"، يمضي إلى التأكيد على أن ذلك الفشل، ليس سببه قوى خارجية فقط، بل داخلية أيضاً. فمشروع "عدم الإنحياز" انحاز إلى  نقائضه، التي جعلته يدور في مكانه قبل أن يصل إلى خاتمته، أي إلى إنهياره. وأول هذه النقائض هو التنافس على السلطة، التي تسمى قيادة، بحيث أن الرغبة في التفلت من "الحرب الباردة" صارت طموح إلى الإستحواذ على قوةٍ من أجل المشاركة في الحرب إياها، أو من أجل الإقتداء بأطرافها، والسير على خطاهم في أشكال الحكم وسبله. فلا تنحصر المشكلة في تبدل "عدم الإنحياز" من الخطبة اليسارية إلى الخطبة الإسلامية، غير أنها تتعدى هذا التبدل إلى تركيب الخطبتين على المتن نفسه، وهو متن الإستيلاء. فما لم ينحز "عدم الإنحياز" إليه، رجع وظهر فيه كأنه صميمه.



قد يصح القول إن "لقاءا" مهيمن هما لقاء مع الوثيقة المعلنة لـ"عدم الإنحياز" في سبعينات القرن المنصرم، ولقاء مع الوثيقة المضادة لها، أما، "الجنازة"، فهي نقد للمعلن ونقيضه، ومسعى لطي صفحته بعد إظهار يوتوبيتها. بهذين اللقائين، وجنازتهما، صنع مهيمن شريط ثلاثي المنظورات، وطيد، وذلك، على الرغم من كونه انطوى، في القليل من أوقاته، على ما يشبه الدوار، الذي دفع الفنان من واقعة إلى ثانية، ومن مقابلة إلى ثانية، ومن تعليق إلى ثانٍ، ومن مكان إلى ثانٍ، وذلك، إلى أن "يجنز" حركة عدم الإنحياز، بوصفها حركة بديلة لبناء العالم الثالث، وينجز مأتمها بلا أي نحيب.


(*) يعرض في مركز بيروت للفن، حتى 22 نيسان المقبل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها