الثلاثاء 2018/03/20

آخر تحديث: 12:16 (بيروت)

"أثر" لعزة أبو ربيعة: سوريا المادونات

الثلاثاء 2018/03/20
increase حجم الخط decrease
بدعم من الصندوق العربي للثقافة والفنون - آفاق، افتُتح معرض الفنانة عزة أبو ربيعة في غاليري ( 392 – 393 رميل -بيروت)، تحت عنوان "أثر". وهو العنوان الذي اختارته الفنانة لتقدم باكورة أعمالها التشكيلية من فن الحفر، والتي بينت أنها نفذت بين عامي 2017 – 2018 في مشغل آرت سين غاليري في بيروت.

ثلاثون لوحة منفذة بتقنية الحفر، تقدم الآن إلى المشاهد، ليس كمجرد لوحات مستقلة الواحدة عن الأخرى، بل إنها ألفت ونفذت تحت مفهوم واحد، يشكل خيطاً سردياً يربط موضوعات اللوحات، ألا وهو تجربة الفنانة الشخصية مع الأحداث الجارية في سورية منذ العام 2011 حتى الآن.

تروي الفنانة السورية في مقدمة الكتاب الخاص الذي طبع كمرافق لأعمال المعرض، عن لحظتها الذاتية الخاصة التي عايشتها إبان العام 2011 في سورية، فتكتب: "بدأت الحفر والتسجيل عام 2011، ولكن سرعان ما بات المرسم غير متاح، إذ تواريت عنه لأسباب أمنية. لكن الفن لم يكن وحده كافياً ومرضياً بالنسبة لي في تلك اللحظات. فهناك الكثير من الأشياء التي تناديني في ثورة تسعى لبناء الهوية".

تبدأ الأعمال إذاً بتلك اللوحات التي تعبر عن التجربة التي ربطت الفنانة بالأحداث الإجتماعية والسياسية القائمة في البلاد، منها الخروج والهتاف في التظاهرات الشعبية، ومن ثم لوحات تروي مظاهر القمع التي اختارت الفنانة منها إطلاق النار على المتظاهرين، والإعتقالات، فها هي لوحة أجساد المتظاهرين تتحول إلى كتل لونية مندمجة سوداء تتراكب وتندمج في بعضها البعض كدلالة على القمع، وعلى مظاهر من العنف طاولت الجميع، تكتب الفنانة بالتعريف عن هذه اللوحة بالذات : "الجميع دفع الثمن، فلم يكن هناك فرق بين نساء أو أطفال أو رجال".

تظهر مشاهد بصرية في لوحات أخرى، جميعها منفذة بتقنية الحفر، وكأنها ومضات في ذاكرة الفنانة من تجربة الإعتقال التي عايشتها. في مجموعة لوحات الإعتقال هذه، يرمز بصرياً للمُعتقل بالغرف المغلقة والمعتمة والمحكمة الإطباق على الشخصيات والشخوص الظاهرة في اللوحة، الأجساد إما تقمع فوق بعضها البعض، أو تتراص بحالات النوم على الأرضية، أو تتقارب وتتبادل الأحاديث السرية في فراغ العيش خلف القضبان.

تحقق الفنانة عزة ببراعة اللوحات المستمدة من ذاكرة الإعتقال، حيث العوالم المغلقة تَفرضُ فضاء اللوحة، وحيث التقشف اللوني بين الأسود وبعضاً من تدرجات النور يوحي بالحالة النفسية والإنفعالية، وحيث تعابير الشخوص محملة بالعزلة الشديدة والهلع. إنها لوحات تستمد من تاريخ الفن، جماليات أعمال الحفر الشهيرة للفنان الإسباني فرانثيسكو دي غويا (1746 – 1828).

تصرح عزة في هذا الإستحضار الجمالي لأعمال الرسام غويا قائلةً: "إن أعمال الحفار والفنان الإسباني فرانثيسكو غويا استوقفتني منذ زمن طويل. لأنه سجل مشاهد حصلت أثناء الحرب والثورة في اسبانيا أوائل القرن التاسع عشر. أرى في أعماله مرآة عن الظلم، وعن تحول الإنسان في تلك اللحظات التاريخية. لتبقى لوحاته حتى اليوم من أهم ما قدمه فن الحفر".

في إحدى اللوحات تجسد الفنانة حلماً راودها وصديقاتها في المعتقل، فبينما كن ينتظرن إخلاء السبيل حلمن بحوت كبير يزورهن في المهجع، ويحملهن إلى الحرية. نرى في اللوحة التي يغلب عليها اللون الأزرق في إشارة إلى البحر، حوتاً كبيراً يحمل أسرة بطوابق كتلك المعروفة في السجون، ويعبر بها في فضاء اللوحة كتجسيد لحلم الإنعتاق من القضبان في حلم يقظة المعتقلات.

في لوحة أخرى تصف الفنانة لحظات زيارة الأهل إلى المعتقل، هنا نلمح بورتريه ينحو إلى الزوال، وجه أنثوي يلوح من خلف القضبان إلى زائريه من الأهل ليوحي لهم بأنه بخير، إلا أن التعابير المثبتة على الوجه تتداخل بين العزلة والهلع، وترتبك بأكثر كونها ترغب أن تعكس للزائرين من الأهل حسن الحال، فلا يخفى على متلقي اللوحة كيف يغور الوجه الأنثوي بعيداٌ، كأنه يتلاشى تحت مساحة البياض الممتد على جوانب اللوحة الأربعة.

تتالى اللوحات التي تعبر عن الأحداث التي عايشتها البلاد، سورية. فهذا رسم مقطعي لأحياء سكنية تعرضت للقصف وعايشت الحروب، تعبّر الفنانة عنها بكتل اسمنتية رمادية وأعمدة كهربائية تتشابك خيوط أسلاكها، لتعبر عن الخواء والرحيل.

أما اللوحة الأكثر بانورامية فهي تلك التي تظهر أبنية سكنية لمدينة مهدمة، تحيط بها مقابر جماعية تسكنها الغربان. ويبدو في الجانب الأيسر من اللوحة أحد باصات النقل العام الخضراء، التي عرفت في الإعلام بمهمة نقل المدنيين من منطقة إلى أخرى، وإخراج الفارين من مناطق النزاع في سورية. إن العناصر المختارة في هذه الصورة توثق عبر فن اللوحة لأحداث اجتماعية أثرت في نفوس الكثيرين، فيأتي الفن ليجعل منها ذاكرة جمعية، حسب غاية الفنانة عزة حين تقول : "سأسجل ما عشت، وأترك هذا الأثر في أعمال الحفر. رغم أني أقوم بذلك، في مرسم ليس بمرسمي وفي شقة ليست بشقتي".

أما عن اختيارها لتقنية الحفر، وأسلوبها في تنفيذ الأعمال الفنية، تشرح الفنانة عزة أبو ربيعة: "على صفيحة نحاسية أحفر المشهد بأداة حادة بعد أن أضع الشمع الطري الذي يعزل الأسيد عن حفر الأبيض الذي أريد. أضيف مساحات رمادية وسوداء بإستخدام غبار القلفونة وخامات من قماش آخر. أضع الصفيحة على المكبس وفوقها ورق من القطن الرطب. وبضغط عال جداً يدور المكبس ليضع كل ما حفرت على هذه الورقة. يبدأ الرسم بالظهور فأرى نتيجة ما حفرت. إنها عملية تشبه الولادة. على تلك الورقة تظهر كل الآثار التي تركتها على الصفيحة، الحفر لا يرحم. ما من أثر تتركه إلا ويظهر في الطباعة. وهذا ما أريد أن أسجله في هذه الأعمال. لهذا اخترت الحفر، فهو يحفظ تلك الآثار ولا يهملها. ومن دونها لن يكون العمل مكتملاً".

تتكرر صور النساء اللواتي يحضنّ أطفالاً بوضعيات متعددة، إنهن لسن تنويعات للسيدة مريم العذراء التي تحضن طفلها المسيح، بل هي رؤى ظلت عالقة في ذاكرة الفنانة لنساء يحمين أطفالهن من نيران الحرب والأسلحة الفتاكة، وفي لوحات أخرى هن نساء ينتشلن أطفالهن من خراب الأنقاض، رغم أنهن يبدون مادونات من رسوم النهضة الإيطالية.

في المعتقل أيضاً، التقت الفنانة بتلك الأم التي أخبرتها بقصتها؛ إنها لم تجد لأطفالها طعاماً في منطقة تعيش تحت القصف والحصار، فما كان لهذه الأم إلا أن تضرب أطفالها، كي يناموا من شدة البكاء، وبعدها تضرب نفسها وتبكي هي الأخرى. هذا ما روته الأم، فحولته الفنانة إلى لوحة تظهر امرأةً برداء رمادي وغطاء شعر أبيض، مغمضة العينين لتوحي بحنان صامت حزين، ولكنها رغم أنها تضم طفليها إلى حضنها،فهي تغلق بكفيها على أفواههم، كأنها تمنعهما من التعبير  لتبقيهما في الركون والصمت.



واحدة من أجمل لوحات المعرض هي تلك التي خصتها الفنانة للتعبير عن تجربة النزوح، التي عايشها الملايين من السوريين حسب قولها. تظهر اللوحة تحت سماء مليئة بالخفافيش بورتريه ككتلة سوداء تحتل منتصف اللوحة حتى أسفلها، لكن عند التدقيق بهذه الكتلة السوداء التي توحي للوهلة الأولى ببورتريه، يكتشف المتلقي أنها عبارة عن ظلال أجساد، كتل بشرية مصورة من الخلف تنزح من دون أن تستدير إلينا، إنه الرحيل الصامت إلى عمق اللوحة العلوي. في هذه اللوحة وجهٌ واحدٌ هو انعكاس لمشاعر آلاف البشر، وكذلك بالمقابل، كتلٌ بشرية لآلاف ترسم برحليها ملامح وجهٍ واحد.

وأخيراً نقول، أنه من النادر أن يشتمل العمل الفني على الموضوعة الإجتماعية والإبتكار الجمالي كما هو الحال في معرض "أثر" لعزة أبو ربيعة. فصحيح أنه في المقال المكتوب كهذا، ترجح كفة الموضوعة الفكرية أو المضمون السردي اللغوي، لكنها ليست العناصر الأهم في هذا المعرض الفني. إنما الأميّز، هي الجوانب التشكيلية الجمالية التي تبرع الفنانة العناية بها، من البصرية الفنية،إلى  الحسية الإنفعالية، وحتى العوالم القصصية، كلها قادرة على التأثير والإبهار، حتى دون التعرف إلى الموضوعة أو المضمون الثابت لكل لوحة. إنه الفن حين يرتفع من الحياتي - الإجتماعي، إلى الجمالي - التعبيري.

(*) يستمر المعرض لغاية 6 نيسان/ابريل 2018.
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها