الجمعة 2018/03/02

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

"غداء العيد" للوسيان بورجيلي: العائلة تلتئم بالنكران

الجمعة 2018/03/02
"غداء العيد" للوسيان بورجيلي: العائلة تلتئم بالنكران
ثمة سقطات عائلية، لو جاء الفيلم من دونها، لحافظ على خفته وظُرفه
increase حجم الخط decrease
نجح فيلم لوسيان بورجيلي، "غداء العيد"(*)، في تقديم وضع من أوضاع العائلة. ذلك، أن عدسته، التي رافقت اجتماعها على طاولة الإحتفاء بحلول الفصح، أبانتها معتلة. ولا يقتصر اعتلالها هنا، على عضو من أعضائها الرئيسيين، كالأب والأم، فحسب، بل يتعداهما إلى الأبناء والبنات، ومعهم الزوج والصاحبة، عدا عن الخالة وولدها. 

ومضمون هذا الإعتلال هو مجمل الأدوار التي يؤديها هؤلاء، بالإضافة إلى الصلات، أو بالأحرى نماذجها أو ميكانيزماتها، التي لا تربطهم بعضهم ببعض سوى لتستقر على غياب الحديث بينهم، مهما علا ضجيجه أو انخفض. فكل "غداء" عائلة، ومثلما بيّن الفيلم، هو موعد مع الفراغ الذي يحضر بين أفرادها، والذي يبرز فيشكل مناقضاً له، يعني في شكل لمةٍ، يتخللها التنكيت والسخرية، فضلاً عن التشدق لمضغ الطعام أو المسايرة. فكل المشاركين في "الغداء"، يجهدون في التستر على ذلك الفراغ، لا سيما أنهم، ومنذ عامين، لم يتقابلوا جميعاً، وبالتالي، هم حريصون على الزعم بأن قعدتهم ناجحة، ولو أنهم جاءوا إليها على مضض، أو دخلوا إليها من باب الواجب، والإستخفاف به.

لا شيء يحصل في وقت الغداء، ليس لأن أحداً لا يتكلم خلاله. بل العكس تماماً، لأن الجميع يرمي بعباراته فوق الأكل، ونحو غيره، مستفهماً عن موضوع، أو مخبراً عنه. لكن، مع ذلك، سرعان ما يلوك حبل الكلام، ويدور على ذاته، بحيث أن أي نقاش قد يحمله هو نقاش محكوم بنهاية عجولة، ولا خلاصة فيها، وهذا لأنه أساساً، عائلي، كما أن تعدد "وجهات النظر" فيه ينمّ عن حاله هذه أيضاً.


بيد أن هذا الكلام، وعدا عن حاله المذكورة، ينقسم بحسب غرف البيت، ليغدو، وعندما يبتعد عن الطاولة، كشفاً عن أسرار، أو تعبيراً عن وقائع جرى التغاضي عنها. فمع أن شيئاً لا يحصل في مساحة اللمّة، إلا بوادر الحصول التي تجيء من خارجها إلى أن تتكثف في حادثة محددة (لا داعي للكشف عنها حثاً على مشاهدة الفيلم)، فينقلب جو الغداء، ومن دون أن يكون انقلابه مفاجئاً، إلى حقيقته، وهي أنه جو مركب ومزيف الغبطة.

بالتالي، يتوقف نكران المنخرطين في اللمّة لهذه الحقيقة، التي، ولما تنجلي، تترك أثرها فيهم. وعندها، يحاولون، لا القول فيها، بل تلافيها. ومن هنا، يولد عراكهم، مثلما تولد ريبتهم حيال عاملة المنزل، بوصفها "الغريبة" الوحيدة. فقد داهمتهم تلك الحقيقة، حقيقة أن الغداء مطبوخ بالنكران، بلا أن يكونوا مستعدين له، وها هم يسعون إلى حجب الحقيقة هذه عبر تبديلها بغيرها، وحصر شخوصها في واحد أو إثنين، قبل أن تعود وتنحسر، فترجع العائلة إلى قانونها وقواعدها سليمة: تتبدد الحادثة، فتغلق العائلة بابها على ما هددها، وطبعاً، من الممكن الظن في أنها حسبته مجرد عارض لكي تستكمل نكرانها.

طوال هذه القصة، كانت الكاميرا بمثابة عدسة منزلية. ومردّ ذلك، طريقة حركتها، التي، وإن كانت في بدايتها عسيرة، إلا أنها سمحت لها أن تلتقط جو الغداء على انقسامه بين ظاهره وباطنه، أو طاولته وغرفه تحديداً، بلا أي قطع بين الجزئين اللذين فصلهما مشهد جزدان الأم، ومحتواه. هذا من ناحية التصوير. أما من ناحية الحوار، فهو فعلياً، كما يقول أحد المشاركين فيه، ممل. والسبب أنه عائلي للغاية، وكل تناوله لشؤون السياسة أو العيش قد فشل في بث الإختلاف فيه، جاعلاً تجانسه بادياً أكثر. مع العلم أن هذا الإختلاف هو سبيل لمواجهة في غير مكانها، وهو يزول مع زوالها: صاحبة الإبن التي تختلف في كلامها مع الخالة، لكنها لاحقاً، وفي لحظة مأزقية، تبدي عائليتها، وتتمسك بها. وبين التصوير والحوار، هناك الأداء، الذي عمد الممثلون إلى جعله متماسكاً على الرغم من المبالغة التي تشوبه في بعض الأحيان، خصوصاً في حين التلاسن والتضارب بين الابنة والصهر، ثم ذهاب الأخير وعودته حاملاً بندقية صيد.

وفي سياق الإشارة إلى سقطة الأداء نتيجة المبالغة، لا بد من الإشارة إلى سقطات أخرى، ليست في ناحية التمثيل وحده، بل في ناحيتي الحوار والتصوير أيضاً. وهذه السقطات هي سقطات عائلية، بمعنى أنها تصدر عن منطق شائع في "عائلة" صناعة الأفلام اللبنانية: التشديد على البذاءة في الكلام، حتى لو جرى الإعتقاد بأنها دليل على إنفعال محقون عائلياً، ولا يمكن أن يسفر سوى بالسباب وبإثارة الإشمئزاز. مشهدة العريّ من الخلف ومن الأعلى، الذي يتجسد في الكشف عن مؤخرة من هنا، أو عملية تبوّل من هناك، وهذا، حتى لو كان من السانح أن تأخذ هذه المشهدة محلها من الإعراب عن العائلة، كإبانة حمّام ضيوفها مخرباً لأن منزلها لا يستضيف أحداً سواها، يعني أنه لا يستضيف أحداً. وثمة سقطة أخرى، ومع بورجيلي، تصير من عاداته الإخراجية، وهي تضمينه التمثيل تمثيلاً غيره (مسرحية في قلب مسرحية، ومسلسل في قلب فيلم). هذه السقطات هي سقطات عائلية. فلو جاء الفيلم من دونها، لحافظ على خفته وظُرفه، ولكان حقق أهم مقلب من مقالب"استقلاليته" أيضاً، ولم يظل عائلياً.

*إخراج: لوسيان بو رجيلي
إنتاج: فرح شاعر، لوسيان بو رجيلي
سيناريو: لوسيان بو رجيلي
تصوير: أحمد الطرابلسي
مونتاج: لوسيان بو رجيلي
تمثيل: فرح شاعر، وسام بطرس، طوني حبيب، جيني جبارة، حسين حجازي، غسان شمالي، إتافار أويك، نانسي كرم، جان بول الحاج، ليتيسيا سمعان، نديم أبو سمرة، سميرة سركيس، ومحمد عباس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها