الإثنين 2018/03/19

آخر تحديث: 12:39 (بيروت)

"مصائب قوم" لعُمَر أميرالاي: الحرب اللبنانية في زمن الأتاري

الإثنين 2018/03/19
"مصائب قوم" لعُمَر أميرالاي: الحرب اللبنانية في زمن الأتاري
يركز الفيلم على فكرة الإستفادة من الموت
increase حجم الخط decrease
تبدو شخصيات فيلم عمر أميرالاي الوثائقي "مصائب قوم" (صوِّر في بداية الثمانينات) الذي عرض برعاية مجموعة "آذار" في الجامعة الأميركية في بيروت (مع النادي العلماني)، كأنها أجهزة تعيد أوتوماتيكياً كلاماً مسجلاً، بلا كثير اعتبار لمصداقيتها، وهي سمة متكررة في أفلام المخرج السوري الذي لا يحاول تلطيف واقع شخصياته، تاركاً إياها مرتبكة خلال أداء أدوارها، ما يظهر في "طوفان في بلاد البعث" الذي يعيد خطابات مبتذلة، تؤكد ولاءها أصحابها لنظام الأسد، وتضمن عدم توريطهم في أي مشاكل أمنية.

لم يعرض "مصائب قوم" كثيراً في السابق، وربما هو الفيلم الأقل شهرة بين أفلام أميرالاي الوثائقية. صوّره المخرج في بيروت قبل عام من الإجتياح الإسرائيلي، الذي يعتبر حدثاً مفصلياً في مسار الحرب اللبنانية، حيث أنهى "الثورة" المسلحة التي بدأت في العام 1975، وغير قواعد اللعبة التي أصبحت بلا هدف واضح.

ومثل أفلام أميرالاي الأخرى التي تتعزز جودتها "كما النبيذ مع الزمن"، فاتحة الباب أمام قراءات جديدة (يمكن إرجاع هذا إلى أسلوبه التقليلي و"الموضوعي المتطرف" في توثيق "الواقع الخام")، حصل الأمر نفسه في "مصائب قوم" حيث اتضح بعد سنوات من تصويره أن شخصيته الرئيسة هو عميل إسرائيلي في غاية الأهمية، عاد وانتقل لاحقاً للعيش في أحد المستوطنات الإسرائيلية، ما فتح العمل أمام قراءة مختلفة، لا يمكن التغاضي عنها بسهولة عند مشاهدته مجدداً.

يخبر الفيلم قصة الشخصية الرئيسية "أبو علي" سائق التاكسي الذي تحول خلال الحرب إلى سائق إسعاف، يأخذ الجثث عن الطرقات، ويتولى غسلها ودفنها. يمضي الرجل جزءاً كبيراً من الفيلم في تبرير عمله، مقدماً عدة وجوه لقصة واحدة:
يبدأ أولاً من الواجب الإجتماعي والأخلاقي الذي يفرض عليه الإهتمام بالجثث "كي لا يأكل منها الجرذ أو تنتفخ، بما أن سكان الشياح قد تركوا منازلهم، وأهالي القتلى غالباً في الجنوب أو البقاع". ثم ينتقل إلى الواجب الديني، الذي يفرض عليه "العمل لوجه الله وبلا مقابل، لأن دفن الميت وغسله والصلاة عليه واجب على كل مسلم".

المثير للإهتمام ويصعب عدم ربطه بمصير الرجل اللاحق، هو التبرير الشخصي الذي أعطاه لممارسة مهنته. يخبر أبو علي أنه ابن عائلة مؤلفة من 16 ولداً، ترك المدرسة في البريفيه كي يعمل فـ"ليس هناك من لا يحب المادة". التاكسي لم تعد تكفيه وهي مصلحة محدودة لا تمكنه من مساواة أصحابه الذين يمتلكون دخلاً أكبر: "ما صاحبت مرة حدا أفقر مني. بكرا بدي جيب كاديلاك للموتى، للعالم الأغنيا حتى يجخو هني وميتين".

يركز الفيلم على فكرة الإستفادة من الموت، فأبو علي لا يلبث أن يؤكد حصوله على فائدة مادية من عمله في الإسعاف، ذاكراً المثل الشعبي الذي سيصبح شقه الأول عنواناً للفيلم: "مصائب قوم، عند قوم فوائد". أما المعلومة التي سيكتشفها أميرالاي بعد سنوات من تصوير فيلمه، فتفتح المجال أمام تأويل آخر لمهنة الرجل، تصبح فيه غطاءً لعمله الجاسوسي، تساعده على الوصول للمعلومات والمناطق المحظورة بدون إثارة للشبهات.

استكمالاً لثيمة التجارة والحرب، التي تطرحها مهنة أبو علي، قرر أميرالاي إجراء مقابلات مع تجار في سوق شعبية، وقد وقع اختياره على سوق الروشة، التي عادت واختفت نهائياً خلال الإجتياح الإسرائيلي - كانت تتألف من محال تنك وصفيح متصلة، تشبه في أحد وجوهها، أسواق المدن الشامية المسقوفة– على يد رئيس بلدية بيروت.

من أسباب اختياره سوق الروشة عوضاً عن سوق أخرى من المدينة، هو موقعها في المنطقة السياحية التي غالباً ما تعرّف بها بيروت. هي سوق مرتجلة وفوضوية، يمكن اعتبارها أحد إنتاجات الحرب الأهلية، حيث انتقل إليها تدريجياً منذ العام 1976 بعض تجار أسواق الوسط القديمة، التي أغلقت بعد تحولها إلى ساحة حرب وخط تماس يفصل بيروت الشرقية والغربية. 
ينقل أميرالاي بطريقة ساخرة، أجواء السوق وعلاقته مع الحرب، فيتحدث بائعو الثياب عن مهنتهم وعن موقع لبنان التجاري الذي استمر رغم كل شيء "بفضل ذوق اللبنانيين ومعرفتهم بنوعية الجينز الجيد". ثم ينتقل إلى مكان آخر، يمكن اعتباره بديلاً عن الروشة، لكن على الساحل الشرقي لبيروت (تقع مناطق البحر السياحية في بيروت الغربية حصراً) حيث يتحدث أحد المستثمرين عن منتجع سياحي يتم بناؤه، للتأكيد على رسالة لبنان السياحية واستمراريته كبلد خدماتي بامتياز.

لكن ما يوثق فعلياً الوضع الحقيقي للسوق، هو ما حصل خلال تصوير الفيلم، حيث وقع إنفجاران في السوق سارع أميرالاي لالتقاط تداعياتهما على التجار، موثقاً مظاهرة مرتجلة تحدثت عن مؤامرة يتعرض لها السوق من أجل إقتلاعه من الروشة، حيث طالب أحدهم، ببقاء الجميع في أمكنتهم، وعدم ترك محالهم كي لا يزيلها أحد، وإن تطلب الأمر بناءها بالباطون كي تصبح دائمة.


صوّر أميرالاي فيلمه عن الحرب اللبنانية، في الفترة الذهبية للتلفزيون، الذي كرس صوراً نمطية حول ما يفترض أن يفعله الناس أو يقولونه خلال الحروب والمآسي. ومن المعروف أن حرب لبنان منذ بداياتها، شكلت موضوعاً رئيساً للإعلام العالمي، حيث تلقت تغطيةً تلفزيونية، لم تتح لأي حرب قبلها.

قبل أعوام قليلة من ذلك التاريخ، ظهر جهاز آخر على علاقة وثيقة بالحرب، هو جهاز الأتاري، الذي جعله أميرالاي أيضاً، عنصراً رئيسيً في الفيلم، حيث يتكرر مشهد يظهر عدداً كبيراً من الأشخاص، بينهم شخصيات رئيسة من العمل، مجتمعين حول التلفزيون المتصل بالأتاري. ومن دون أن يتكلم واحدهم مع الآخر، يشاهدون مقاطع من لعبة Asteroids Arcade - دهاليز الكواكب (تشكل أصواتها وصلاً بين جميع أجزاء الفيلم)، التي تواجه فيها طائرة حربية وحيدة، كويكبات وأجسام غريبة في السماء. لا يظهر الفيلم اللاعب الذي يتحكم بالطائرة، مفضلاً إبقاء هويته مجهولة، ما يبدو متناسباً مع خطابات يوثقها الفيلم، تتحدث عن مؤامرات ولعب كبيرة، وبعض الأشخاص المجهولين يتحكمون بكل شيء من الأعلى، ويلعبون بأمن اللبنانيين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها