الخميس 2018/03/15

آخر تحديث: 14:44 (بيروت)

"في سوريا" لفيليب فان لوي: محاصَر، متعَب، ومنتظِر

الخميس 2018/03/15
"في سوريا" لفيليب فان لوي: محاصَر، متعَب، ومنتظِر
لم ينجرف فان لوي إلى الإسراف العنفي، ولا إلى الإسراف الوجداني
increase حجم الخط decrease
ثمة تهمة تُوجّه الآن إلى كل عمل فني يتناول موضوعاً يرتبط بسوريا والسوريين، مفاده: صاحب هذا العمل يركب الموجة ويتاجر بدم الأبرياء. وفعلياً، هذه التهمة تقوم بردة فعل على كثرة الأعمال التي تتناول الموضوع إياه، ولإلقائها داعيين. الأول هو الإحساس بأن الغالب على هذه الكثرة هو الإنحسار الإبداعي، وتحولها إلى مجموع من المنتجات التي يلوح بها الغشاشون في السوق المؤسساتي. والثاني، لا علاقة له بتقييم تلك الكثرة، وذلك، مع أنه يتظاهر بالتصريح بها، بل يتصل بالسعي إلى منعها، والإطاحة بها، لأنها تحمل موقفاً ضد نظام البعث الأسدي. 

المشكلة أن رد الفعل هذا، ولو أنه ينطوي على نوايا طيبة في مستهله، لا يحمل في خلاصته، سوى على الدعوة إلى طمس الموجة، أي أن داعيها الأول يؤدي إلى داعيها الثاني مباشرةً: الكثير من الأعمال التي تولدها الموجة، إذاً، فلتُلغَ الموجة ذاتها، وبعبارة أخرى، فليوقف الجميع كلامه عن سوريا، كأن شيئاً لا يحدث فيها. كما أن المشكلة أيضاً، أن هدف الموجة، وكل موجة، ليس حشد الأعمال حول موضوعها لإبدائه، بل بث اللامبالاة به، ولاحقاً، بث إنكاره. فهدفها هو نفي موضوعها، ولهذا السبب، الذين يبغون إزالة الموجة يحققون ما تريد إنجازه، وقبل هذا، الغشاشون فيها هم الذين يفتحون الطريق أمام ممانعيها.



في النتيجة، يرسو التضامن بين الغشاشين الذين يشاركون في نفي الموضوع، والممانعين الذين يدعون إلى إعدامه كأنه غير موجود البتة، لا سيما أنه يبين مسؤولية نظامهم. الغشاشون هم ممانعو الموجة، والممانعون هم مسجلو رغبة الغشاشين. إلا أن التعامل مع أي موجة، لا يكون بالحض على إلغاء موضوعها، أي بتحقيق غايتها، بل بمواجهة غشاشيها وممانعيها، بطرح موضوعها بطرق لا تمت لطرقها بصلة، أي بركوبها من أجل لخبطتها، ومن أجل معاكستها، ومن أجل حرفها عن سبيلها.

مناسبة هذا التمهيد، الذي يستحق الحديث فيه على حدة، هو فيلم المخرج البلجيكي فيليب فان لوي، "في سوريا"، الذي، ومع أنه في الموجة ذاتها، إلا أنه لا يحتذي بالغش، الذي ينتشر فيها، مثلما أنه، وفي الوقت نفسه، لا يتسم بكونه شريطاً إبتكارياً. فهو، وإذا صح الإختصار، ليس سيئاً، لكنه، ليس جيداً أيضاً.

ليس سيئاً، لأنه يذهب إلى موضوعه، مدركاً مبتغاه منه، إذ يسعى إلى تقديم وضع معين، وهو محاصرة عائلة سورية، بالإضافة إلى العاملة لديها، وإلى جارتها، في المنزل. إذ إن أفرادها، ومعهم، الخادمة (ديلهاني، جولييت نافيس)، والضيفة (حليمة، ديامان بو عبود)، لا يمكنهم مبارحة مكانهم نتيجة القنص والقصف. تصور الكاميرا كيفية عيشهم هذا الوضع، وكيفية تنظيم الأم له (أم يزن، هيام عباس)، لكي يكون محتملاً، ولكي يحصل الإحتماء من مفاعيله، كما تصور الصلات بينهم، مركزةً على كون الجامع بينهم، أي الحفاظ على حيواتهم، لا يعني تكاتفهم بالكامل، بل إن إختراق الأمنيين لمجالهم يجعلهم يقتربون من التضحية غير المتعمدة بجارتهم من أجل النجاة. فلا يبشر الفيلم بالتآزر، ولا يلقن أي حل لفك الحصار، يصور وطأة الأخير على سكانه، محاولاً إبانة أحوالهم.


لكن الفيلم ليس جيداً، لأنه، وبذهابه إلى موضوعه، يفتقد أمراً محدداً، وهو شدته، بحيث أن إنقطاع العائلة عن خارج منزلها، لا يبين حضورها، ولا يكثفه، كي يكشف عن مضمونه أو يشقلبه. وهذا، ما يترك آثاره في المشاهد، التي تجيء ضعيفة ومتقطعة، رغم اعتماد التقاط شخوصها على أساس حركتهم، كأن العدسة، وبسيرها خلفهم، تحاول ربط غير المترابط. مثلما أن إفتقاد الشدة جعل الحبكة على وشك التلاشي، عدا عن تركه الحوارات غير وطيدة. أما التمثيل، فبفعل افتقاد الشدة إياها، جاء مكتوماً، لا يجليه غضب أم يزن، ولا إنقباض ديامان بو عبود الإحساسي والوجهي. على هذا النحو، دارت الوقائع بين الإنطفاء والجمود، وبينهما، سقطات لا تضر ولا تنفع، من قبيل التهكم الطفولي أو التعري على حافة حوض الإستحمام مثلاً. وذلك، إلى أن أتى الثوار إلى المنزل لإسعاف زوج الجارة المصاب، وهم لم يأتوا كمخلصين، بل كمحاصرين أيضاً.

لم ينجرف فيلم فان لوي إلى الإسراف العنفي، ولا إلى الإسراف الوجداني، لم يمثل بالسوريين. تلافى كل هذا، رغم سقطاته، لكنه لم ينجح في طرح موضوعه بأسلوب آخر. فإذا كان الفيلم راكباً للموجة، فقد تجنب الاستسلام لها، لم يستند إلى طرقها الأساسية، لكنه لم يبتكر طرقه. وهذا ما جعله ينتهي كما بدأ، محاصراً بالموجة، لا يغرق فيها، لكنه في الوقت نفسه لا شدة عنده لتعدّيها. ربما، افضل وصف له هو ما قاله احد المتفرجين عند ختامه: "فيلم تعبان"، والتعب مرده الإنتظار الذي يعبره من أوله إلى عقبه، والذي يجعل وقته متخثراً داخله. 

(*) "في سوريا": ابتداء من اليوم الخميس 15 آذار/مارس في الصالات اللبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها