الثلاثاء 2018/02/06

آخر تحديث: 10:07 (بيروت)

"عن الجسد والروح"..حكاية حب بين الغابة والمسلخ

الثلاثاء 2018/02/06
"عن الجسد والروح"..حكاية حب بين الغابة والمسلخ
ينتهي الفيلم نهاية تقليدية للغاية لعلاقة مفارقة للواقع.
increase حجم الخط decrease
"عن الجسد والروح"* فيلم لافت وجدير بالملاحظة من نواح كثيرة، ليس أولها أنه يجعل من مشهد ذبح بقرة، صورة فاتنة الجمال بقدر رعبها، وليس آخرها الفرضية المغرية والمتجاوزة للواقع التي تقترحها حكايته حول شخصين يتشاركان الحياة الحلمية يتردد صداها عميقاً مع الرغبة الإنسانية الدائمة للتواصل ونيل الحميمية والوصال مع مخلوق آخر يتآلف معه (أليس غاية كل إنسان هو إكمال نقصانه البشري من خلال إقامة علاقة روحية وجسدية مع إنسان آخر؟)، أما النجاح النقدي الحاسم للمخرجة والكاتبة المجرية إديكو إنيدي بعد عودتها وراء الكاميرا بعد عقدين من إنجازها فيلمها الأول بفيلم آخر رقيق ومتفرد، فهو قصة تفرض نفسها بحد ذاتها. بالنسبة للبعض، "عن الجسد والروح" فيلم خاص في تفرّده، بامتلاكه القدرة على سحر مشاهديه أغلب مدة عرضه قبل أن يغادروا الصالة في حالة من خيبة الأمل، بسبب إهدار الفيلم احتمالاته وأبعاده الممكنة كي يصبح كوميديا رومانسية تحافظ على تماسك خيوطها الدرامية الاستثنائية بقدر تمسّكها بنبرة سنتمنتالية أخذت كثيراً من مشروع سينمائي كان يمكن له أن يشكّل علامة مميزة في مزجه بين الميتافيزيقية العاطفية والكوميديا السوداء.

تدور أحداث هذا الفيلم الغريب والمثير للتأمل داخل أحد مسالخ الحيوانات، يحضر هنا مسرحاً للرقّة والقسوة وتباينات النفس البشرية وتوقها الدائم للألفة والإيلاف. أما بطلاه فيعشان في عزلة، وتعيش تحث قشرة انطواءهما البادي رغبة تنتظر الإشارة الصحيحة لمباشرة حياتها المؤجلة. ماريا (ألكساندرا بوربيلي) امرأة شابة جميلة خلت حياتها من التجارب الجنسية والعاطفية ويحمل وجهها شحوباً يشي بطبيعتها الهشّة ورقّتها الخائفة، تفرض عليها ظروف عملها الجديد في المسلخ الالتقاء بإندري (جيزا مورساني) المدير المالي للمسلخ وهو رجل في منتصف العمر حاد الملامح لا يمكن الوقوف على طبيعة ما بداخله. ما يجمع بينهما هو اشتراكهما في نفس الحلم كل ليلة.
 

يبدأ الفيلم بمشهد يمثّل أحد الأحلام التي يتشاركها كل من ماريا (ألكساندرا بوربيلي) وإندر (جيزا مورساني): زوج من الغزلان في غابة هادئة تكسو أشجارها الثلوج يقفان في مواجهة بعضهما أمام بركة للمياة. التباين بين سكون الشتاء العميق ومنظر الحيوانات الجفلة ذات العيون المفتوحة على اتساعها يضفي شعورا بالمخادعة. إنه شعور غريب وباطني يشبه ما يحدث في الأحلام، حين يجد المرء نفسه موجوداً في بيئة غير بيئته الأصلية أو التي اعتاد العيش فيها ولكنه يحمل وعيه كاملاً في ذلك الوجود الجديد. هي عملية استبطان ومعايشة تخيّل داخل العقل النائم تمتدّ مفاعيلها إلى الواقع "الحقيقي"، لأن هذين الغزالين ليسا سوى ماريا وإندريه. وبينما نتحرك بين الواقع والحلم، فإن رواسب هذا الشعور تصدّر نوعاً محدداً من الحميمية التمثيلية خاصة بعمّال المسلخ. هؤلاء لا يتم تمثيلهم/تعريفهم في الفيلم بحصرهم داخل الإطار الضيق لعملهم اليومي -رغم أنه في كثير من الأحيان لم يكن بناء الشخصيات مكتملاً- ما أسهم في خلق قوس إنساني أوسع حول الشخصيتين الرئيسيتين، ماريا وإندريه، يحمل بداخله مسارات ممتدة لمشاعر رابضة وحيوات داخلية.

تملك المخرجة براعة واضحة في تطوير الشخصيات والعلاقات بينها، وغالباً ما يحدث ذلك ببضع دقائق فقط على الشاشة، والأقواس الصغيرة لزملاء عمل ماريا وإندريه مقنعة وغنية للغاية. لكن أفضل ما في الفيلم تصويره، وهو يدين بذلك إلى كاميرا ماتي هيرباي التي تتألق في المشاهد داخل المسلخ: مغازلات ومضايقات العمال غالباً مصوَّرة من زوايا مائلة، صورة ظلّية لماريا مزخرفة بالضوء الأزرق المنبعث من شاشة حاسوبها، وحتى لقطات الدماء المندفعة من أجساد الحيوانات المذبوحة والمتدفقة على الأرضيات تراوغ قسوتها بجاذبية غامضة مثلما تفعل صورة الماشية المُعلَّقة من أرجلها في صالات الذبح. غير أن ثمة إلحاح دائم من الفيلم على إظهار التضاد والتعايش بين المتناقضات، وهو يفعل ذلك عبر مونتاج سلس ينتقل من عالم الأحلام وغاباتها وثلوجها وبرك مياهها العذبة إلى واقع دموي قاس داخل المسلخ وصراعاته الشريرة التافهة. 

بتقدّم الفيلم، يتكثف تركيز الاهتمام على العلاقة بين ماريا وإندريه ويغرق الفيلم في المجازات المتعِبة والمستهلَكة حول المعيارية الجندرية والأدوار "الطبيعية" للذكر والأنثى في الحياة، مبتعداً عن طبيعته التأملية الهادئة للفروق الشخصية الدقيقة التي جعلت النصف الأول من الفيلم مُرضياً للغاية. وبينما في المسلخ، تخفف رومانتيكية الكاميرا والنهج الإخراجي لإنيدي تماماً من وحشية العمل اليومي وسطوة المكان القاهرة، فإن العديد من المشاهد الداخلية التي ترسم الحياة الباطنية للبطلين مباشرة جداً في تصويرها للاغتراب الحضري وتنحرف كلية نحو العاطفية المطلقة. الوثاق الروحي الرابط بينهما هو الخيط الدرامي الأكثر إثارة للاهتمام والأكثر إلحاحاً، بالنظر إلى عدم تأكيده بالاتصال الجنسي أو تشييده عبر عملية غائية رومانسية تقليدية. لذلك عندما يحدث التطور الدرامي الأبرز في الفيلم ويصبح زميلا العمل الغريبين المنطويين فجأة وعلى نحو غير متوقع مستعبدين من خلال تجربة عاطفية مشتركة نادرة الحدوث، لا يتوقع المتفرج بأن ينتهي الأمر ببطلي الحكاية نائمين على سرير واحد في ليلة باردة. ولكن هذا ما يحدث في الفيلم فعلياً، في نهاية تقليدية للغاية لعلاقة مفارقة للواقع.


هذا الفشل في التعامل مع قماشة واعدة لحكاية سوريالية وفقدان السيطرة على استكمال تلك الرحلة في تلمُّس الحميمية السحرية الناشئة بوضع ماريا وإندريه عند نقطة تماس خيالية وبالغة الرهافة بين عالمي المسلخ والأحلام؛ هو أمر محبط. لكن خيبة الأمل الأكبر في الفيلم تلي ذلك، وتتمثل في الإذعان غير الضروري من حكاية الفيلم إلى تبنّي خطاب مباشر حول المعيارية الجندرية، يرافقه تشييء ماريا وتعريفها بصفتها تعاني نوعاً من التوحّد الانعزالي. فكلما اطلعنا أكثر على حياة إندريه خارج المسلخ (علاقته مع صديقه الذي نام مع زوجته سابقاً، أو زوجته السابقة أو ابنته)، يلحّ التساؤل حول اختفاء تلك العلاقات من حياة ماريا تماماً. الاستثناء الوحيد هو المعالج النفسي في طفولتها، والذي يدرّبها على السلوك الاجتماعي واستراتيجياته. ربما لا تمتلك ماريا أي علاقات أخرى، ولكن هذا باعتباره اتصالها الوحيد مع الآخرين خارج مكان العمل، يعزّز فقط من اختزال شخصيتها إلى مجرد "حالة". ويبدو أن الصعوبات الاجتماعية التي تواجهها ماريا والغياب الواضح للتجارب الشخصية الهامة الكبرى من حياتها في نهاية المطاف، يتشابك مع الدور الرومانسي والجنسي المنوط بها تأديته الذي يتطور بتطور حكاية الفيلم، وهو تطور مثير للتساؤلات في الحقيقة. عاداتها السلوكية الغريبة تُقدّم وتُستقبَل بوصفها عادات ظريفة قديمة الطراز، أما عزلتها فهي سذاجة محببة وربما حتى براءة. يتكرر هذا في مشهد يجمعها بزوجة إندريه السابقة حين يواجههما الكادر في وضع متباين: الزوجة السابقة أكبر في السن، شعرها أسود، تبدو مرتاحة جسدياً وجنسياً، متعجرفة، وصاخبة في بعض الأحيان، وتلقى تجاهلاً من زوجها السابق الذي يبدو ولعه بماريا قد أجهز على أقل قدر من الاهتمام يمكن تقديمه للمرأة التي كانت شريكته في السابق.


في النهاية، تتغلّب ماريا على نفورها المزعج من لمس أحدهم لجسدها، وتعطي نفسها بالكامل لاختبار نعيم الجنس مع الحبيب المنتظر (رغم صعوبة تأكيد ذلك في مشهد غير مريح إطلاقاً يظهر فيه إندريه معتلياً ماريا مطلقاً همهمة غير مفهومة في مقابل سكون غريب من جانبها)، لتتوقف أحلامهما المشتركة بعد ذلك. وإذا كان ثمة نتيجة يمكن الخروج بها من هذه النهاية النيئة، فهي أنه عندما يتخلّى رجل وامرأة عن وثاقهما الروحي ليقررا تحقيق اتصال جنسي حقيقي، فلن يكونا بحاجة لمقابلة أحدهما الآخر في غابة هادئة تعلو أشجارها الثلوج.


(*) عُرض الفيلم ضمن فعاليات "مهرجان الفيلم الأوروبي" الرابع والعشرين في بيروت.فاز الفيلم بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين السينمائي 2017، كما وصل إلى القائمة النهائية لترشيحات جائزة أوسكار في فئة أفضل فيلم أجنبي.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها