الإثنين 2018/02/05

آخر تحديث: 12:30 (بيروت)

عُقد فرانسيس أليس وغباره

الإثنين 2018/02/05
increase حجم الخط decrease
يقوم معرض الفنان فرانسيس أليس (بلجيكا، 1959) في "مركز بيروت للفن" بمدخلين متشابكين. الأول، ضئيل، وبسيط، وهو عقدة الشَعر، والثاني، ضخم، وشديد، وهو الإعصار، فما الذي يجمع بين الإثنين؟ بأعماله، التي تتنوع بين رسوم وفيديوات وصور وتصنيعات، يشير أليس إلى أن المدخلين يتمحوران حول وقع الأفعال، أو الأحداث، في مزاولها، أو في متلقيها، فأي كانت أحجامها، لا بد أنها تخلف آثارها فيهما، وتدفعهما إلى التبدل.

ثمة امرأة تجهد في الإقدام على حركة معينة، وهي ضم خصلات شعرها إلى بعضها البعض، قبل عقدها، أو بالأحرى تسريحها عقداً. يرسم الفنان هذه المرأة في وضعيةٍ تفيد بأنها تقدم على حركتها بلا قصد، بل بداعي التعود. تجلس، وترفع شعرها لتلفه، إلا أنها لا تنجح بذلك بدايةً، تواصل المحاولة، ولكن، بدون أن تصل إلى غايتها. يقدمها الفنان مرة تلو المرة، ورسمة تلو الرسمة، ساعياً إلى إبانة مجمل لحظات حركتها، ولهذا، يجزء الأخيرة بعد تبطيئها. تصير المرأة شخصية فيرسم متحرك، شخصية في اسكتش مستمر، ولكن، استمراره لا يعني أنه متغير، إذ يرتكز على فعل واحد ومتكرر، وما أن يتوالى حتى يذهب سدى.

لوهلة، لا يبدو أن هذا الفعل، أي عقد الشعر، ينطوي على وقع، بحيث أن مزاولته، وعدا عن كونها تقدم عليه بلا انتباه إليه، لا تكترث ببلوغ الهدف منه، ولذلك، تظهر أنها تعيده مراراً وتكراراً في انتظار شيء ما. ولأن هذا الشيء لا يقبل، فلا يتوقف فعلها، ومع استمرارها فيه، يتحول إلى منتج ترقبها، وبالتالي، يترك عليها وقعه، الذي يتسم بالغلظة، ويقترب من كونه تعذيب لها، أو تنكيل بها: تعقد شعرها، ينفك، تعقده، فينفك من جديد، منتظرةً الإقلاع عن حركتها بعد إتمامها.

كيف يجري العقد من دون انفكاكه، كيف يجري تبديد الإنتظار؟ يستفهم أليس. من خلال المشي، يجيب، إذ أنه، وعبر التحرك من وضعية الجلوس إلى وضعية السير، يجعل كل جسمه عبارة عن عقدٍ، تتكون في مواقف محددة. المشي خط مستو، التعثر خط بعقدة واحدة، الضياع خطين بعقدة، التردد خط بعقدتين إلخ. فعلياً، يكاد هذا العمل (عُقد-2006) يكون الأكثر تفنناً في معرض أليس، وذلك، على الرغم من انتهائه إلى الكثير من العقد، التي تعطل المشي، وهذا، ما يؤكده عمل آخر، وهو كناية عن حذاء وضعه الفنان في إحدى القاعات، فبعد كل تحركه، لم يخلص سوى إلى التجمد. فيتساوى المشي، مثلما بينه أليس معقداً، مع الثبات، وبالتالي، يفقد وقعه على صاحبه، ويجعل حركته تذهب سدى أيضاً.

وهنا، لا بدّ من ملاحظة، وهي أن أليس، ولكي يمشي، وقبل أن يبلغ التجمد، صنع أسلحةً، تتألف من آلات التصوير، وفي النتيجة، لم تعينه على الإنصراف عبر المشي، بل أوقفته في مكانه. من قاعة "عُقد" إلى قاعة "الحذاء"، هناك طريق لتطابق الحركة والهمود، والمشي والتوقف، والوقع والهباء، طريق، يعلم أليس أنه لا يحمل إلى عنوان، ولهذا السبب بالذات، يهتم بغباره. فأهم ما في الطريق، بالنسبة إلى الفنان، لا بدايته ولا نهايته، بل غباره، علامة وجوده وعلامة تلاشيه على حد سواء.

العقد ينفك وينتج الإنتظار، والمشي يبدد الإنتظار، لكنه، يجمد. كل الأفعال تستقر على أن وقعها يرادف عبثها، ولذلك، لا بدّ من واقعة كبرى، تقتلع من الثبات والتوقف، وفي الوقت نفسه، تتصل بعنصر الغبار، الذي يبالي أليس به. هذه الواقعة هي الإعصار، الذي، وبكاميرته، يلاحقه الفنان، ويدنو منه، مخاطراً بحضوره، ومحاولاً إلتقاط قلبه. ماذا يوجد في صميم الإعصار؟ هذا استفهام عدسة الفنان، ولما تطرحه، تبغي أن تصل إلى "نواة ساكنة في الدوامة"، حيث تقطن.

لقد توجه معرض فرانسيس أليس من فعل صغير إلى حدث كبير، من وقعٍ ماثل عدمه، إلى واقعة، قصد بها استخلاص حيز هادئ فيها، أي استنتاج موطئ في فوضى العالم الراهن. لم ينجح، لكنه، حاول، وبالتأكيد، فشل بطريقة جيدة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها