الأحد 2018/02/04

آخر تحديث: 09:34 (بيروت)

"الخيط الوهمي"...حين تكون الرومنسية مضرة ومدمرة

الأحد 2018/02/04
"الخيط الوهمي"...حين تكون الرومنسية مضرة ومدمرة
يستمر أندرسون في لمس الآلام البشرية العميقة
increase حجم الخط decrease
الانسجام، ما هو إلا ركيزة لعلاقات طويلة الأمد، أو للتعايش إن شئتم القول، لكن طرق الوصول إليه لا تمر فقط من خلال رحلة ممتعة أو رومنسية، ففي الواقع دروبه مليئة بالعقبات، وفي كثير من الاوقات بالقسوة. من زاوية أخرى، لدى كل فرد أو زوج معنى مختلف للانسجام، فهو عند البعض يتمثل في الوصول إلى "السعادة الوسطى" في العلاقة، في حين عند آخرين هو معرفة الشخص حق المعرفة وفهم هواياته، همومه واحترام الروتين الخاص به.

يحاول المخرج الأميركي بول توماس اندرسون تقديم رؤيته أو تفسيره الخاص للانسجام، فمن وجهة نظره يكمن الانسجام في السر الذي يمكنك من خلاله "استعادة" شخص حين يبدأ الشعور بأنك تفقده. هكذا بالضبط وبكل ما للكلمة من معنى أو تفسير يمكن تسميته بـ "الخيط الوهمي"، وهو فيلم اندرسون الذي تدور أحداثه في أجواء مدينة لندن الرطبة والضبابية عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، حيث يجسد الممثل دانيال دي لويس شخصية صانع أزياء الطبقة العليا في المجتمع رينولدز وودكوك، الذي يتلقى دعوة لتصميم عدة أزياء لجميلات من الأسرة المالكة حيث المزج بين الجمال الخالد للأزياء الكلاسيكية والازياء الحديثة، وفي خضم الروتين يلتقي رينولدز نادلة تدعى إلما (فيكي كريبس). بعد أول لقاء لهما يأخذنا الفيلم إلى محاولة فهم علاقة الحب المتناقضة بين الفنان وملهمته، خليط بين التوتر والاعجاب المتبادل والهيمنة الابوية التي تتبدل فيها الأدوار باستمرار. دوافع الشخصيات غير متوقعة لذا هي لا تساعدنا على فهمها، ويبدو جليّاً أن إلما ورينولدز ناضلا في الفيلم لفهم بعضهم البعض، وحاولا السيطرة على الغرائز والدوافع التي ينتجها الحب.
- لماذا لم تتزوج؟ تسأل إلما.
= اصمم الفساتين، يجيب رينولدز.

هذا الجواب هو نوع من التورية لاعتراف تافه بأنه متزوج فقط بمهنته، وأن إلما قريباً من دون أن تشعر ستصبح غير مرئية، كما حدث لكثيرات قبلها، وأنها من الآن فصاعداً سوف تضطر لفرض نفسها ولو بطريقة متطرفة جداً كي لا تصبح مجرد ملهمة لهذا الرجل الذي يكرس حياته للفساتين، وعليها أن تتحايل باستعمال السر الذي يكرّس بينهما "الانسجام" لأنه الطريقة الوحيدة القادرة على تغيير شخصية إنسان للأبد ولو بطريقة غريبة ومؤلمة.
إنه تحدٍ كبير أن يروي أحدهم قصة لأبطال شخصيتهم "غير ودية"، فذلك يشبه المشي على حافة، ولكن شجاعة بول توماس اندرسون قادرة على النجاح لينتصر في تحقيق مراده.

"غير ودية" قد تبدو كلمة قاسية، لكن الحقيقة، فشخصيات الفيلم ليست مثالاً للتوازن العاطفي، ناهيك عن تطلعاتهم المختلفة، واندرسون عبقري في خلق شخصيات مضطربة، يفعلها في كل مرة، وخاصة عندما تكون الشخصيات تتمحور حول دور يقوم بتأديته دانيال داي لويس في التعاون الثاني مع المخرج نفسه بعد "ستسيل الدماء" عام 2007، ومن جديد يقنعنا بجدارة لويس بأسلوبه التمثيلي المنهجي، ويجعلنا من جديد نرى عبقريته في التماهي تماماً مع الشخصية الذي يتقمصها، ونرى ذلك في "الخيط الوهمي" في تعامله مع التصاميم والأقمشة والإبر، ومن ناحية أخرى يتفوق لويس بتفاصيل الشخصية النفسية التي تكون حقيقية لدرجة أن الحاجز بين التمثيل والواقع يختفي، وكان لويس قد قال إن إلهامه الرئيسي لدوره في "الخيط الوهمي" هو مصمم الازياء الإسباني كريستوبال بالانسياغا (1895 – 1973). والجدير بالذكر بأن هذا الفيلم هو العمل الاخير للويس كما قال، والذي قال فيها الوداع بأفضل أداء يمكن أن يقدم.

أندرسون ينسج الرومانسية التي تصبح متطرفة أثناء الفيلم، والتي تنبع من كوميديا سوداء متحولة لميلودراما غير أخلاقية. أندرسون هنا كان المخرج والكاتب وحتى مدير التصوير رافضاً أن يعطي لنفسه المسمى الأخيرـ وعلّق على ذلك بأنه تعاون بين الجميع، فنتجت مشاهد كل منها يمكن أن تكون لوحة في متحف، خاصة تلك التي تكون فيها الاضاءة خافتة. والجدير بالذكر أن مشاهد كثيرة اعتمدت على ضوء النار أو الشمعة. أما الأزياء فتأخذنا لحقبة الفيلم نفسه بتفاصيلها الدقيقة، فضلاً عن الموسيقى التصويرية التي ألًفها جوني غرينوود عازف الغيتار الرئيسي لفرقة الروك البريطانية "راديوهيد" في رابع تعامل له مع أندرسون. 
بالرغم من أن الفيلم يوحي بأنه رومنسي لذيذ، إلّا أنه فيلم مزعج نوعاً ما، قريب من أفلام الرعب والإرهاب النفسي، وفي كثير من الأحيان يبدو أنه صدى لفيلم "ريبيكا" لألفريد هيتشكوك. أندرسون ولويس قدما معاناة الفنان المهووس الذي يجد صعوبة في السيطرة على إبداعاته، من هنا نشأ شعور حزن واضح لكليهما عبروا عنه من خلال التصوير وحتى المقابلات، ولتأكيد ذلك قدم لويس شخصية مهووسة عاشقة بما تفعله شبيهة به وبالأربعين عاماً من عمره التي قدمها للتمثيل، ويستمر أندرسون في لمس الآلام البشرية العميقة، والتعامل مع الحدود البشرية الحساسة.

(*) يعرض في الصالات اللبنانية
(**)شارك في بطولة الفيلم دانيال دي لويس، وليزلي مانفيل، وكاميلا رذرفورد، من تأليف وإخراج بول توماس أندرسون، الذي سبق وترشح 6 مرات لجائزة الأوسكار، وسبق وتعاون من قبل مع دي لويس بفيلم "There Will Be Blood" وحصد جائزتي أوسكار. 

يذكر أن دانيال دي لويس هو الممثل الأول، والوحيد، الذي حاز على ثلاث جوائز أوسكار لفئة أفضل ممثل دور رئيسي، لأفلام My Left Foot: The Story of Christy Brown، There Will Be Blood، و Lincoln.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها