الأربعاء 2018/02/28

آخر تحديث: 11:46 (بيروت)

إنتحار المستهلكين الصغار

الأربعاء 2018/02/28
إنتحار المستهلكين الصغار
شائعات عن انتحار تلميذ بسبب "الحوت الأزرق"
increase حجم الخط decrease
تحذر المدارس في لبنان، هذه الأيام، طلابها، من مغبة تنزيل تطبيق لعبة "الحوت الأزرق" على هواتفهم، والمضي في لعبها، لأنها تحث المشتركين فيها على الانتحار بالقفز من علو، أو الطعن بالسكين، وغيرهما. على أن هذه اللعبة مصممة للأولاد الذين تتراوح أعمارهم بين 7 و15 عاماً، وبالتالي، تلك المدارس تتوجه بتحذيرها إلى تلاميذ المرحلة الابتدائية أساساً، والتكميلية من بعدها.

فهؤلاء يأتون إليها حاملين هواتفهم الذكية، ومعها ألواحهم الإلكترونية، عامدين إلى استخدامها طوال الوقت إلا في أثناء جلوسهم على مقاعدهم داخل الصفوف، وهذا، قبل أن يعودوا إليها للاستمرار في التواصل مع أصدقائهم، وفي مشاهدة الفيديوهات، وسماع الموسيقى، والتقاط الصور، ومزاولة اللعب طبعاً. إذ يقضون غالبية وقتهم في استعمال هذه التقنيات، وفي حال لم يفعلوا، فإنهم يتفرجون على التلفزيون. وحتّى عندما يدخلون صفوفهم، قد تكون تلك التقنيات هي وسائط تحصيلهم المعرفي. إذ إن عدداً كبيراً من المؤسسات التعليمية، ولكي تلتحق بالعصر، وهو فعلياً التحاق معطوب، تعتمدها بدلاً من الوسائل التي لطالما كانت رائجة فيها.

بهذا، يغدو التلاميذ، ومن الهاتف إلى التلفزيون، وبالعكس أيضاً، مشبوكين بعالم ميديوي ضخم، يحولهم شيئاً فشيئاً إلى مستهلكيه الرئيسيين، الذين لا يبارحونه سوى للرجوع إليه. ولكن، ما مرد إلتحامهم بهذا العالم؟ إنهم يفرون إليه، ولا يمكن الجزم إن كانوا بذلك ينفذون رغبتهم، أو يسجلون رغبة أهلهم فيهم، إلا أنهم، وفي الكثير من الأحيان، وبسبب أعمارهم، يفعلون الأمر الثاني قبل الأمر الأول، بحيث يحققون رغبة الأم والأب التي سرعان ما تضحي رغبتهم: "خذ هاتفي وتسلى"، يعني "دعني أرتاح منك قليلاً".

فإذا كان من المتاح تحديد سمة لهؤلاء الأهل، فهي الضيق المصحوب بالندم، الذي يجعلهم يطرحون استفهاماً خفياً، وهو "لماذا كان علينا أن ننجب أولادنا؟"، قبل أن يكفروا عنه بالإفراط في التعلق بهم. ولهذا التعلق أشكال مختلفة، وعلى رأسها، الشكل الموارب، الذي يوفره حض الأولاد على الفرار إلى العالم الميديوي، فبذلك، يظلون إلى جانب أهلهم، وفي الوقت نفسه، يبتعدون عنهم، كما لو أنهم حاضرون وغائبون على حد سواء. فانتقالهم إلى ذاك العالم يسمح لأهلهم بالشعور بأنهم ما عادوا أهلاً، وبالفعل ذاته، أن يبقوا أهلاً. بعبارة أخرى، انتقال الأولاد الإفتراضي يوفر وضعاً ملائماً لتناقض وجدان الأهل حيالهم، فإذا أحبوهم، لا يقلقون لأنهم في جوارهم، وإذا استاءوا منهم، يطمئنون إلى أنهم في منأى عنهم.

ولكي يجري انتقال الأولاد، من اللازم أن يدفعهم أحد والديهم إلى عالم الإفتراض الميديوي على أساس أنه مصدر متعته، وبالتالي، يحذون حذوه، ويتماهون معه، ويبالغون في الحذو والتماهي إلى درجة تعديهما: "أفعل كما تفعل أمي، وأفعل كما يفعل أبي". فذلك العالم أيضاً يكفل لهم وضعاً مناسباً لبنوتهم المتأرجحة بين الإستقلال والتبعية، فإذا ضاقوا ذرعاً بأهلهم، استكانوا إلى أنهم منقطعون عنهم ويفعلون ما يحلوا لهم. وإذا خافوا، ارتاحوا إلى أنهم في قربهم، ويتجانسون معهم. ففي العالم الذي انتقلوا إليه، من السانح أن يكونوا الأبناء، بالتوازي مع ألا يكونوا، أن يقلدوا والديهم بالتوازي مع تجاوزهم هذا التقليد.

هكذا، يدخلون إلى عالمهم الجديد، وهناك، وكلما بالغوا في استهلاكه، يحدث شيء خطير، وهو فقدانهم لما سمته كاترين هايلز "الإنتباه المكين" الذي ينقلب إلى إنتباه مسرف. أي أنهم، وببساطة، يفقدون قدرة التركيز على موضوع واحد لوقت طويل، ليتلقوا مجموعة هائلة من المعلومات، متحولين بسرعة من موضوع إلى آخر، باحثين عن منبهات، يستنفدونها، ويملون منها، قبل التفتيش عن غيرها نظراً إلى عدم تحملهم الملل، الذي لا يتوقف عن التزايد.

في النتيجة، لا مغالاة في القول إنهم يتحولون إلى ما يشبه الزومبيات، التي، ومثلما علمتنا أفلامها وقصصها المسرودة والمصورة، تتعقب منبهاً جسيماً، كبيراً، وقاطعاً، وذلك، لكي يكون موافقاً لهيامها على وجهها، ليكون الحدث الذي يبت هذا الهيام ويكلله. للأسف، المنبه هذا، عرفت لعبة "الحوت الأزرق"، ومعها لعبة "مريم"، كيف تقدمه بطريقة مباشرة: الموت، الذي، وعندما يقدم الأولاد عليه، يعلنون أن المجتمعات، التي حولتهم إلى مجرد مستهلكين، لا مستقبل لها، حتى لو فرحت بأنهم يكبرون قبل أوانهم، بأنهم يسبقون أعمارهم، وها هم يلمعون كنجوم في برامج تلفزيونية أو في قنوات "يوتيوبية".

من هنا، فإن تحذير المدارس الذي وجهته إلى التلاميذ ليس في ذاته مجدياً، بحيث أنه يطاولهم، لكنه لا يطاول أهلهم، ولا يطاولها أيضاً. هناك نسق كامل، قوامه الإفراط في الإستهلاك، يعبر من المدرسة، وموضوعة المعارف وموادها، إلى البيت، وموضوعة الميديا بوسائلها ومواقعها وتطبيقاتها. الجميع، وكل طرف بحسب مأزقه، يندمج فيه، أكان من خلال غض الطرف عنها، أو من خلال الدعوة إلى منعها، فالمنع هو السبيل إلى جعله أكثر متانة. الجميع يندمج في ترك آثار ذلك النسق، وقوامه، وأنماطه، على الأولاد، الذين، وحين ينتحرون، يسجلون أمراً بعينه: لا مجيء للحياة التي كنا نعيشها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها