الإثنين 2018/02/26

آخر تحديث: 12:31 (بيروت)

العبث كسياسة

الإثنين 2018/02/26
العبث كسياسة
كلما كان الإنخراط في معركة الانتخابات في متنها، كلما تمسك بنفيه
increase حجم الخط decrease
ثمة وصف يتناقله المنهمكون، ومن جهاتهم غير الرسمية المتنوعة، بالمشاركة في جلبة الانتخابات النيابية للكلام عن الجهد الذي يعمدون إلى بذله من أجل تحقيق مبتغاهم المبهم منها. إذ يتحدثون عن "عبث" ذلك الجهد، قاصدين أنه لن يبلغ أي نتيجة، وهذا، حتى لو حملهم إلى الفوز بمقعد أو مقعدين في البرلمان المقبل. بالتالي، يرادفون بين "العبث" والبطلان، الذي، ومع أنهم يعتقدون بكونه يحكم نشاطهم، إلا أنهم يستمرون فيه: نعلم أن نشاطنا لن يجدي، لا بأس، نعلم أنه بلا نفع، لكن، لا مناص منه!

بعيداً من هذه المقولة الأخيرة، ووجوب التوقف عندها، وعند مردها، غير أن وصف الإنخراط في معركة الصناديق، بالعبث، هو بمثابة إساءة له. فلإستنتاج معنى من معاني العبث، من الممكن تقديم المثال التالي: أحدهم يتحدث مع غيره، يخبره بأن ما يعمد إليه مضر به، ويسأله أن يقلع عنه بهذه الطريقة أو تلك. لكن هذا الغير لا ينصت إليه، ويواصل الإضرار بنفسه على مرأى ومسمع رفيقه، الذي، وبدوره، يتابع انهياره مباشرةً أمامه، محتفظاً في قرارته بما أوضحه له مرة تلو المرة.

أين العبث في هذا الوضع؟ ليس في فقدان الأمل من إحداث تغيير، وليس في أن هذا الإحداث معدوم، وليس في أن محاولة الإحداث قد أخفقت، بل إنه في حدس حقيقة قبل وقوعها، وفي صياغة قولها قبل أن تعمد إلى القول بذاتها، وفي طرحها أيضاً. بذلك، العبث هو على الدوام "عبث بـ"، أي أنه يقتضي تبديل حالة ما، كما أنه يقتضي التنبه لشيء يكمن في هذه الحالة، لكنه، لم يظهر فيها بعد. "يعبث بالأوراق" يعني أنه يبدل حالتها، متنبهاً إلى أن الكامن فيها، حقيقتها الأخرى نوعاً ما، هو إمكان اللعب بها.

من هنا، الجهد الذي يبذله المنخرطون في معركة الصناديق ليس عبثياً البتة. فهو لا "يعبث" بالحالة السياسية التي تحضر في البلاد، بمشهدها وملفوظاتها على الأقل، بل يتماهى معها، ويخضع لقانونها، ويتجه صوبها متسرعاً قبل أن تفوته. تصرُف بسيط في المثال الآنف: أصحاب ذلك الجهد يخبرون المواطنين أن اقتراعهم للأحزاب الرسمية ذاتها هو أمر مضر بهم، لماذا؟ لأنها أحزاب طائفية، ولأنها تسلبهم حقوقهم، نقطة على السطر.

ما يخبره هؤلاء المنخرطون للمواطنين لا يرتفع إلى منزلة الحقيقة، ليس لأن تلك الأحزاب لا تقوم بالتعصب، أو لأنها لا تسلب حقوقاً، فهي كذلك. لكن ما يجري إخباره للمواطنين لا يكمن في حالتهم، كما أن إظهاره لا يؤدي إلى تبديل هذه الحالة، لأنه ظاهر مسبقاً على سطحها. بل استحال موضوعاً في برامج المنوطين به: مسؤول في حزب الله، وخلال مقابلة تلفزيونية معه، ينتقد الطائفية، وقد ينتقد ذات يوم السلاح غير الشرعي أيضاً.

فما يخبره المنخرطون للمواطنين ليس "حقيقة تجرح"، بل ضمادة تستر الحالة السياسية، أي أنه جزء منها. إفتراض العكس، إفتراض أن المواطنين لا يعون تلك "الحقيقة التي لا تجرح"، الحقيقة المضمدة، هو إما قلة دراية أو استخفاف بهم، وبينهما، هو فرض لها عليهم. وفي النتيجة، كلما كان الإنخراط في معركة الانتخابات في متنها، كلما تمسك هذا الإنخراط بنفيه، يتمسك بالحالة الحاضرة، التي يبغي مقارعة المسيطرين عليها، لكنه، وبهذا، يقوي سيطرتهم.

هناك حاجة ملحة للمنخرطين في جلبة الانتخابات، وقبلها، ما يسمى الشأن العام، إلى أمر ضروري، وهو حقيقة أخرى لشرح الحالة السياسية، ولإدراك دواعي رسوخها، وسبل انتظامها وسيرها، قبل المضي إلى التدخل فيها، وفي لعبتها. وهذا، فعلياً، لا يوفره سوى الإنطلاق من الوصف، الذي ينعتون جهدهم به، أي من العبث، ومن الشروع فيه بسؤال أولي: لماذا يذهب جهدنا سدى، وفي الأساس، ماذا نريد منه؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها