الجمعة 2018/02/23

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

"خطة بغداد الكبرى": نساء وصدّام وميكي ماوس

الجمعة 2018/02/23
"خطة بغداد الكبرى": نساء وصدّام وميكي ماوس
تضعنا الفنانة آلاء يونس أمام معضلة الحنين إلى المخطط، بوصفه يوتوبيا سابقة، فاشلة ومهزومة.
increase حجم الخط decrease
في الشاشة المغبشة، يظهر رجلا مرتدياً زي ميكي ماوس، يرقص بين الجماهير الغفيرة التي تملأ القاعة الرياضية. تتبع الكاميرا ميكي وهو يصعد المنصة، ومن خلفة جدارية كبيرة للرئيس صدام حسين، وهناك يقف أمام مندوب الحكومة، ويمد يده بالسلام. وبحركة مفاجئة ومبالغ فيها، ينتفض المندوب الحكومي من مقعدة ويشد على يدي ميكي بكل توقير، قبل أن يبدو عليه بعضاً من التردد في المبالغة التي أبداها في التحية. يقف ميكي أمام المندوب، يهز خصره، بينما يشير إلى المسؤول بيديه في حركة راقصة ومكررة. تجول الكاميرا في قاعة المجمع الرياضي، الذي تحمل اسم صدام حسين، ناقلة احتفال جماهير بغداد برأس السنة عام 1990.

يُعرض التسجيل القصير، في مدخل معرض بعنوان "خطة بغداد الكبرى" للفنانة والمعمارية الأردنية، الآء يونس، في قاعة مؤسسة ديلفينا - وسط لندن. يبني المعرض الحالي، تيماته الرئيسة، على عمل يونس السابق "خطة بغداد الكبرى"(2015) والذي يتقصى عبر مواد الأرشيف والوثائق، والروايات الشخصية، تاريخ قاعة الألعاب المغلقة في بغداد، والتي صممها لوكوربوزييه، وافتتحت في العام 1980. لكن القاعة التي مر على تصميمها ربع قرن من التغيرات قبل البدء في بنائها، وشهدت 5 انقلابات عسكرية، و6 رؤساء، وأصبحت لاحقاً مقراً لقوات الاحتلال الأميركية، ليست مجرد شاهد على التاريخ، أو نصباً لخلود قصير. فيونس عبر معروضاتها من الوثائق والصور الأرشيفية، والمجسمات ثلاثية الأبعاد، تعيد قراءة المخطط والنصب والمنشأة كشبكات متراكبة من علاقات التكليف والأداء بين السلطة والفنانين والمعماريين والإداريين والمقاولين وغيرهم، وأيضاً كسطح لتقاطعات حيوات فردية، مع حسابات الضرورة وتمثيلات القوة والمنافسة والمقابلة بين المحلي والعالمي.
 


وفي المعرض الحالي، تضيف يونس بُعداً آخر إلى معالجتها لبغداد ومخططها. فعبر عملها الاستقصائي والبحثي في المواد الأرشيفية، تنبش إسهامات المعماريات والفنانات وغيرهن من النساء في صياغة صروح بغداد، وبقائها واختفائها، متجاوزة الطرز المعماري للمدينة إلى تاريخها الأوسع. فمن بلقيس شرارة، والتي هرّبت مسودات كتاب زوجها المعماري، رفعت الجادرجي، خارج سجن أبو غريب في 1979، مروراً بالفنانة نهى الراضي، التي وصفت مذكراتها عامي 1990/1991، الحياة اليومية للبغداديين تحت القصف والحصار، وصولاً إلى الشاعرة آمال مرسال التي زارت بغداد تحت الحصار في 1994، ثم زها حديد، المعمارية العراقية الأشهر... تضعنا يونس أمام وطأة الحمل الرمزي والمادي للمدينة ومخططها على نسائها، بالقدر نفسه الذي تكشف به أدوارهن في خلق نُصُبها والدفاع عنها.

وإلى جانب تلك الأسماء المعروفة، تختار يونس فتاة غير معروفة تظهر في تسجيلات رأس السنة 1990 في القاعة المغطاة، لتصبح جزءاً من معرضها وتذكيراً بهؤلاء المجهولين الذين كانوا وما زالوا الموضوعات الرئيسية لعمليات التخطيط، والمعمار، ومشاركين في شعائرها وطقوسها. هكذا تضيف يونس طبقة إضافية لعمليات التخليد. فعبر مجسمات ثلاثية الأبعاد لشخصيات معرضها، ومعظمهم من النساء بالإضافة إلى ميكي ماوس، تصنع يونس نُصُبها الصغيرة أيضاً، مؤكدة عبر اختياراتها الانتقائية والمحددة ونسختها من رواية بغداد، على دور الفنان والمعماري في عمليات القوة، والبناء والهدم، وكذا سلطة الذاكرة والمحو.

وبالرغم من بعض الضيق الذي يخلفه المعرض، والشعور بالنفور أمام مشهد ميكي ماوس وغرائبية تعامل رجل السلطة أمامه، فإن هناك ما يستدعى قليلاً من النوستالجيا. فواحدة من أكثر المعروضات التي تلفت الانتباه هي صورة لصدام حسين مع مجموعة من النساء، يبدو فيها وسيماً ووديعاً، بل وتظهر على وجهه علامات حياء صبياني.

فالتركيز على مفهوم الخطة والمخطط، كما يكشف عن تلك المسافة والهوة العميقة بين ما كان له أن يكون وما حدث فعلاً، وبين التصميم والتنفيذ، الصورة السابقة والأصل اللاحق بها، فإن يونس تضعنا أمام معضلة الحنين إلى المخطط، المخطط بوصفه يوتوبيا سابقة، وفاشلة ومهزومة، وصورة أصيلة كان يمكن إنقاذها، في لحظة ما في الماضي.

لكن، ولأن ذلك لم يعد ممكناً، فلم يبق إلا تحويل المخطط إلى نصب للذاكرة بغية إنقاذه وإنقاذها، وربما هذا ما سعت إليه يونس، أي إعادة خلق الأشياء كما كان لها أن تكون في الأصل، ومشاركتنا الحسرة عليها لأنها لم تكن. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها