الخميس 2018/02/22

آخر تحديث: 11:22 (بيروت)

الروائي بختيار علي: واقعية سحرية كردية

الخميس 2018/02/22
الروائي بختيار علي: واقعية سحرية كردية
حفر عميق في الواقع السفلي للمجتمع الكردي
increase حجم الخط decrease
في مقال له بمجلة ألمانية أبدى الناقد والمتسعرب الألماني شتيفان فايدنر دهشته من بقاء الكاتب الكردي العراقي بختيار علي مجهولاً للقاريء الأوروبي حتى الآن. وهو لم يعبر عن هذه الدهشة إلا بعد أن ترجمت إحدى روايات علي إلى الألمانية. 
رواية "الرمانة الأخيرة في الدنيا"، التي صدرت بالألمانية عن دار نشر سويسرية أذهلت الناقد وفاجأت القارىء الألماني، في آن معاً. والرواية كانت من قبل أدهشت القارئ الكردي حين صدرت في السليمانية عام ٢٠٠٢، ثم تردد صداها في إيران حين ترجمت إلى الفارسية عام  ٢٠١٥.

تخوض الرواية في التاريخ القاتم للأكراد ومافيه من ويلات وهزائم ومآس وصنوف من الفجيعة لم تخطر في بال.

غير أنني أتحدث الآن عن رواية جديدة، ترجمت تواً إلى اللغة الإنكليزية تحت عنوان "نظرت ملياً إلى ليل المدينة" وصدرت عن دار بيريسكوب في لندن، في ترجمة بارعة ومبهرة أنجزها كريم عبد الرحمن. وهي كانت صدرت باللغة الكردية عام ٢٠٠٢  بعنوان غزلنوس وحدائق الخيال.

رواية ضخمة، ٥٤٢ صفحة من القطع الكبير، وهي غاية في الصعوبة. إنها حفر عميق في الواقع السفلي للمجتمع الكردي، العراقي، وغوص في تشعباته وسعي لفك ألغازه واستكناه أسراره.

ليس هناك راو واحد بل عشرات الرواة وهناك ما لا يمكن حصرها من الشخصيات التي تنهض وتختفي. وتتداخل الأحداث والتواريخ والأزمنة والأمكنة بشكل مذهل في سرد لولبي حافل بالاستعارات المدهشة ومركونة إلى جمل طويلة، بروستية، تلتوي على بعضها بعضاً في تصاعد حلزوني أشبه بمتاهة لا نهاية لها. تتطلب قراءة الرواية تركيزاً عالياً وتمعناً رصيناً وذاكرة قوية وإراة حديدية في الاستمرار لأن أي سهو أو نسيان يمكن أن يدخل القارئ في طريق مسدود فتنغلق عليه الأشياء ويصبح من العبث وغير المجدي الاستمرار في القراءة.

يتداخل الواقعي والفانتازي بحيث يصعب في نهاية الأمر الفصل بينهما وإزاحة الواحد عن طريق الآخر. الحال أن التشابك محكم ودقيق لدرجة تدفع القارئ لأن يتورط في اللعبة فلا يعود يهتم كثيراً ولا يرغب، على الأرجح، أن يميز هذا من ذاك.

وفي العمق فإن الوقائع صادمة وغريبة وغير مقبولة ومحتملة بحيث أنها تتجاوز سقف الخيال.

زمنياً تمتد الرواية أكثر من خمسين سنة وهي تحمل في أحشائها مجريات التاريخ الكردي قديمه وحديثه مأخوذة في عملية هضم متواصلة  تنتهي بانتهاء الرواية.

بطل الرواية شاعر اسمه غزلنوس، أي شاعر الغزل، وهو منهمك في تدوين كتاب عن الموتى الذين  قضوا في الحروب والثورات والتمردات والانتفاضات الكردية.

وهناك مجموعة من الفنانين والكتاب تطلق على نفسها إسم “المخلوقات الخيالية”، تحاول أن تحل لغز جريمة وقعت في مدينة كردية تعيش تحت سيطرة حفنة من البارونات، (بارون الخيال، بارون البورسلان، بارون اليقطين، وسواهم).

تتألف المجموعة من القناص والنساج وماجلان الحقيقي، بعد أن رجع من رحلاته البحرية حول العالم، وماجلان الخيالي الذي يقود ثلة من العميان في رحلات ذهنية.

تتخلل النص وقائع فعلية جرت على أرض الواقع في كردستان مثل حملات الأنفال وحروب الاقتتال الداخلي بين الجماعات الكردية المتناحرة.

مجموعة البارونات (جمع بارون) تعيش في منطقة مغلقة خاصة بها تسمى، بارونستان، مسورة ومفصولة عن العالم الخارجي للناس العاديين. بارونستان هي منطقة حكم ذاتي سكانها من السياسيين الكبار في العمر ورجال الأعمال الأثرياء. هاهنا عالم اللصوص والفاسدين والدجالين والكذابين، من أقرباء السياسين.

في هذا الجو الموبوء ثمة فجوة هائلة بين القول والفعل، بين الشعارات والممارسة، بين الحاكم والمحكوم. من هذه السواقي تتسرب مياه العدوان الخارجي الذي لا يكل ولا يمل في الفتك بالناس وتدمير البلاد وتهشيم المجتمع وتفكيك أواصره بحيث لا يكون قادراً ابداً على النهوض على قدميه.

واحد من البارونات يسمى بارون الخيال، وهو يتمتع بشخصية غامضة ذات سطوة هائلة، يمكث في الظل ويمارس سلطته من وراء الستار، وهو يسعى إلى تجنيد غزلنوس لصالح السلطات الحاكمة، سلطات الأمر الواقع. مشروعه هو بناء “مدينة الخيال” في كردستان.

غير أن غزلنوس هو من ذلك الصنف المتمرد، الذي يصعب الإمساك بناصيته وإخضاعه. إنه عصي على الخنوع. فهو يؤمن بأن مهمة الشاعر هي العيش منفياً، سواء أكان داخل الوطن أم خارجه. عليه أن يراقب الواقع من منفاه.

في الجوار ينهض عالم فانتازي: أولاد يلعبون وصدورهم العارية منقوشة بأبيات من الشعر. أولاد يخترقون الجدران بأنظارهم. حدائق تظهر في الليل فقط.

تكتسي الشخصيات، وكذلك الحوادث، أبعاداً غير منطقية بحيث يصعب تأطيرها في عملية ترميز من شأنها أن تربط الأمور برباط المنطق والعقل.

يفلح الروائي في المزج بين الواقعي والخيالي في توليفة يصعب الفصل بين حديها، وهو يسعى، عبر الكثير من الحيل السردية والفنية، إلى فضح الواقع القائم في كردستان، أي عكس ما يريده ويعمل عليه البارون وأتباعه.

النص يكاد يشبه أفلام هاري بوتر (أو النصوص التي كتبتها رولينغ عنه). هاهنا المشاهد غريبة وصادمة ومدهشة وغير معقولة إلى درجة تفوق الخيال. ومع هذا فإنها بالفعل واقعية. واقعية سحرية كتلك التي خطها أدباء أميركا اللاتينية. هناك أيضاً تفوق الواقع على الخيال بعجائبيته: عداوات وحروب ومجازر وأهوال وفظائع وأحلام مجهضة على الدوام، حلماً وراء حلم، جيلاً بعد جيل.

خلف السرد السحري، السوريالي، المتشابك ثمة بعد واقعي شديد الإلتصاق بأحوال العيش اليومي للناس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها