الجمعة 2018/02/02

آخر تحديث: 12:48 (بيروت)

"الساعة الأكثر ظلمة": تشرشل في عصر ترامب

الجمعة 2018/02/02
"الساعة الأكثر ظلمة": تشرشل في عصر ترامب
هل يقدم الفيلم حقاً نموذجاً، يمكن أن يعيد الثقة في مفهوم القيادة؟
increase حجم الخط decrease
لا يشير عنوان جريدة "تلغراف" البريطانية "فيلم الساعة الأكثر ظلمة: تشرشل يوحد الأمة من حوله"، إلى الأحداث التاريخية التي يتناولها الفيلم، بل إلى الفيلم نفسه. فما عنته الجريدة أن غاري أولدمان الذي يقوم بدور تشرشل، هو من يجمع البريطانيين من حوله اليوم. وبالفعل بعد الإعلان عن ترشيح الفيلم لستّ من جوائز الأوسكار، قفزت تذاكره إلى قمة جدول المبيعات في بريطانيا، بعد أسبوع من البدء في عرضه. الفيلم هو الثاني عن تشرشل في ما لا يزيد عن ستة أشهر، ففي منتصف الشهر الماضي انطلق فيلم عنه بعنوان "تشرشل"، لم يحظ بكثير من النجاح. وهو الثاني أيضا في الفترة نفسها عن عملية اجلاء "دنكيرك". لكن وإن كان الفيلم الأول من إخراج كريستوفر نولان، صور معارك العملية، فإن "الساعة الأكثر ظلمة" قدم خلفية الحدث نفسه، وصراعات الغرف المغلقة التي قادت إلى اتخاذ قرار الإجلاء. 

فتشرشل، الذي كان قد تولى منصبه كرئيس للوزراء قبلها بأسابيع قليلة، لم يكن خصمه الأخطر هو هتلر، بل قيادات حزبه هو نفسه، أي حزب المحافظين. ومشاهد الفيلم التي تدور بين الإضاءة الكابية لأنفاق وغرف مركز قيادة الحرب، وقاعات برلمان "ويستمنستر" الشاحبة، تقف كخلفية للمواجهة بين خيار الحرب حتى النهاية، ومفاوضات السلام غير المتكافئة مع الألمان. لم يكن هنا ما هو غير متوقع، فتشرشل سيتغلب على رئيس حزبه، تشامبرلين، بالطبع، ويخوض الحرب إلى نهايتها، وينتصر فيها. طاول الفيلم ما طاول سابقه، "دنكيرك"، من نقد، باعتباره "يؤجج خيالات البريكزت الجامحة"، عن بريطانيا الوحيدة والمعزولة التي تحارب وحدها. بل وقبل أربعة أيام، قال السفير الألماني في لندن، في تصريح نادر من نوعه، وفي إشارة ضمنية إلى الفيلم، بأن "صورة بريطانيا في الحرب العالمية الثانية أججت العداء تجاه أوروبا".

لكن تلاعب جريدة "الغارديان" باسم الفيلم، قبل أيام، واستخدامه لعنونة أحد مقالاتها، "صفقة للبريكست في الأفق: الساعة الأحلك لماي قد حانت"، يبدو الأدق. فالمأزق الذي تواجهه رئيسة الوزراء البريطانية، في مفاوضات الخروج، لا يتعلق بممثلي الاتحاد الأوروبي، ولا بتنمر حزب العمال المعارض، بل أزمة قيادة حزبها المنقسم، والتغلب على خصومها داخله. ومن واشنطن، كتب ديفيد سميث، لـ"الغارديان"، عن الفيلم، ليصيغ تداخل الصور التي يطرحها الفيلم مع السياسة الأميركية اليوم، "في عام ترامب، وفي وسط الشكوك التي أضحت لدى الكثير من الأميركيين من مفهوم القيادة، يأتي الفيلم لينال تشرشل دفعة من الجماهيرية". لكن هل يقدم الفيلم حقاً نموذجاً، يمكن أن يعيد الثقة في مفهوم القيادة؟


يلعب غاري أولدمان، دور تشرشل، ببراعة، رجل وقح وفج وشره، ويعامل سكرتيرته في منتهى القسوة والصلف، ويكرهه من حوله، ويخافونه، حتى من داخل حزبه. لا يثق أحد في قدرته على القيادة أيضاً، فلا أحد ينسى كارثة حملة غاليبولي، التي أودت بأرواح 55 ألف جندي من الحلفاء في الحرب الأولى. لا يعرف تشرشل أيضاً الكثير عمن يحكمهم، ففي أحد المشاهد يقر بأنه لم يركب قطار الأنفاق أبدا في حياته، وفي مشهد آخر تشرح له سكرتيرته، كيف أن لعلامة النصر التي رفعها بأصبعيه، قد تعني شيئاً آخر، لـ"طبقات الوقحة". لا يتورع تشرشل عن الكذب على الجمهور، وخداعهم، مدعيا بأن معركة فرنسا تسير في صالح الحلفاء. ويختتم مشهد لقائه بالقادة الفرنسيين، وأحدهم يخبر الآخر بأن تشرشل الذي يرفض الاعتراف بحقيقة احتلال النازيين لفرنسا، "منفصل عن الواقع". فما الذي يختلف فيه تشرشل إذا عن ترامب، غير قدراته البلاغية وخطاباته؟

في مشهد هو الأضعف فنياً، يصل الفيلم إلى ذروته العكسية، يقرر تشرشل أن يترك سيارته، وأن يركب قطار الأنفاق، بلا سبب مُقنع. وهناك يلتقي بالشعب، أخيراً، والذي يثبت له أنه كان دائماً على حق. فركاب القطار يخبرونه بكل حماسة وطنية، أنهم مع الحرب، بل وحتى الطفلة التي ربما لا تتجاوز السابعة، تقف بكل وجوم وتصميم، لتهتف أمامه "أبداً" لن نستسلم. وفي نهاية المشهد، يعلن شاب أسود البشرة، عن موقفه، مستشهداً ببيت للشاعر والإداري الاستعماري توماس ماكولي: " كيف للمرء أن يموت بشكل أنبل... سوى فداء لرماد أجداده ومعابد آلهته؟". لا يبدو أن أحداً من منتجي الفيلم تنبه لتلك المفارقة الكاشفة، وغير المقصودة، فأن يأتي بيت الشعر هذا، تحديداً على لسان واحد من أبناء المستعمرات، وبالأخص أمام تشرشل، الذي كان هو نفسه وزيراً لإدارتها.

لكن وبغض النظر عن كل هذا، فإن تشرشل ومعه الجمهور، يطمئن لقرار الاستمرار في الحرب حتى النهاية، ويرفع عن الجميع ثقل تأنيب الضمير على الخسائر في الأرواح. ويذهب بعدها تشرشل إلى البرلمان، ليعلن هناك أن المعركة مستمرة أيا كان الثمن، وحتى لو سقطت بريطانيا نفسها، فالمعركة ستنتقل إلى الإمبراطورية، فمستعمراتها جميعا، ومن فيها، بلا شك فداء للكرامة البريطانية. يقدم "الساعة الأكثر ظلمة" خليطاً من الشعبوية، والشوفينية، والاستعلاء الأبيض، وقدر لا بأس به من الذكورية، مع تمجيد الحرب، في خضم موجة سينمائية يقودها حنين إلي ماض ذهبي. موجة ربما تسعى لتعويض خيبات الحاضر وركاكته، لكنها لا تنجح سوى في الاستعانة بصور من الماضي، لا تبدو أفضل بأي حال، إن لن لم تكن أسوأ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها