الإثنين 2018/02/19

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

وداعاً أيتها الطبقة الميسورة

الإثنين 2018/02/19
وداعاً أيتها الطبقة الميسورة
في أثناء تمثيل التلفزيون لتلك الطبقة، يعمد إلى الإطاحة بها
increase حجم الخط decrease
لا يشير كلام ميشال المر، صاحب قناة "أم.تي. في"، عن كون الأخيرة تخاطب الطبقة الميسورة، "المتعلمة" و"صاحبة القوة الشرائية"، إلى أن محطته لا تمثل غير تلك الطبقة فقط، وهذا فعلياً واضح في برمجتها، بل أنه يشير إلى أزمة تعاني الطبقة إياها منها. ذلك، أن المر، وحين يصرح بأنه يتوجه بإعلاناته إليها، فتصريحه يسجل ضدها، وليس ضد هؤلاء، الذين لا ينتمون إلى اجتماعها، والذين اعترضوا على كون التلفزيون يقصيهم من هوائه، وبالتالي، وصفوه بأنه معادٍ للفقراء.

تسيء "أم. تي. في" إلى تلك الطبقة، التي تجهد، وعلى طول بثها، إلى جذبها بدعاياتها. ولو أن هذه الطبقة، وككل الطبقات الأخرى، ليست مستلبة، لكانت هي التي رفضت حديث المر، إذ إنه، في الحقيقة، يكشف عن أمر واحد: تلفزيوني يعمل على جعل هذه الطبقة مغتربة عن نفسها، ولأنه ناجح في هذا الفعل، يرتفع ثمن الإعلان فيه.

في العام 2004، قال باتريك لولاي، وهو مدير محطة TF1 الفرنسية، أن برامج التلفزيون، وكل تلفزيون، لا دور لها سوى جعل ذهن المشاهد متاحاً للدعايات بإرخائه وتسليته، فـ"ما نبيعه لكوكاكولا، هو وقت ذهني سانح". الدور نفسه، من الممكن سحبه على برامج "أم. تي. في"، وغيرها بالطبع، بحيث أنها، وبمخاطبتها للطبقة الميسورة، التي تتصف بامتلاكها، وبالإضافة إلى القوة المعرفية والقوة الشرائية، القوة الزمنية، تعمد إلى القبض على ذهنها، إلى غسله، لكي يغدو قابلاً للدعايات، التي لا تريد منه سوى أن يتحول إلى محرك صوب الإستهلاك.

وأن يكون ذهن هذه الطبقة على هذه الحال، فهذا يقلبها من طبقة تنتج طرق عيش إلى طبقة تتلقى طريقة عيش آحادية، لا تستلزم منها سوى أن تستهلك، وبالتالي، أن تفقد قدرتها على تنظيم حياتها. بعبارة أخرى: تنقلب هذه الطبقة، التي يجري النظر إليها على أساس أنها مميزة، إلى شريحة بروليتارية، تنتظر من التلفزيون أن يعلمها أين تسكن، وماذا تأكل، وإلى أين تسافر، وأي هاتف تستخدم، وأي كريم يساعد على إزالة تجاعيد وجهها، وبين شدها إلى هذه السلعة وتلك، يرخيها بخبر أن "المال لا يجلب السعادة"، أو يسليها بصورة "باسم فغالي بأحضان رجل في الفراش".

من هنا، وفي أثناء تمثيل التلفزيون لتلك الطبقة، ومخاطبته لها، يعمد إلى الإطاحة بها، وجعلها طبقة لا تحضر سوى عبر الاستهلاك، وقبل هذا، عبر إصابتها بالبرتلة، عبر تحولها إلى بروليتاريا. هكذا، قد يصح الحديث، وبطريقة فكاهية نوعاً ما، عن ثورة التلفزيون على ثروة هذه الطبقة، بحيث أنه يعطل تميزها، الذي تستمده من امتلاكها للقوى الآنفة الذكر، مغيراً إياه، وبالاستيلاء على ذهنها، إلى التحلي بفعل معين، وهو ابتياع كل شيء. وهذه الطبقة، وحين تفرط في هذا الفعل، تبدو كأنها تؤكد على كونها لا تملك شيئاً، أي لا تتصف بتنظيمها للحياة، لكنها، لا تحسن إظهار ذلك. ولهذا السبب بالتحديد، تشجع الوجهة الرسمية للفن الراهن، التي تقوم بتمجيد الإغفال عن الحياة، الإقلاع عن الدراية بها، لأنه يفصح عما لا تعرب عنه، ولأنه ممكنها، بحيث ينبئها بأن وضعها قد يكون وضعياً فنياً، وهذا موضوع آخر.

حين لا تعترض الطبقة الميسورة على تصريح صاحب تلفزيون حول استغلالها، بل تصفق له، مثلما تصفق لتمثيله لها، فهذا دليل على أن أزمتها عويصة. إذ إنها تغتبط بغسل ذهنها، بجعله مساحةً لتلقي الدعايات، وبالتالي، جعله محركها الإستهلاكي، أي أنها تفرح بدمارها. أما، حين يعترض هؤلاء، الذين يجدون أنهم لا ينتمون إلى تلك الطبقة، على كون تلفزيونها ينفيهم، فهذا دليل على أزمتهم العويصة أيضاً، بحيث يريدون أن يتقاسموا معها دمارها، أن يتشاركوا معها اغترابها. فالجلبة، التي أثيرت حول ميشال المر، هي جلبة المتفرجين، الذين يطالبون بالحق في تسليم ذهنهم للشاشة، وذلك، على إعتقاد بأنها ممنوعة عنهم نتيجة توجهها إلى فئة ضئيلة منهم: نريد جميعناً أن نكون مستهلكين، أن نكون متشابهين، أن نكون طبقة واحدة، وجمهور واحد من المستلبين!

على هذا النحو، ينتصر التلفزيون، أي بإعلانه أنه يمثل طبقة دون أخرى، فيقسم المتفرجين عليه، وبمنظور ماركسي، إلى طبقات، دافعاً إياهم إلى مطالبته بالإنفتاح عليهم بالمجمل، وعلى هذا النحو، يقيس درجة ولائهم له: نريد جميعنا أن نسلم ذهننا لك!
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها