الخميس 2018/02/15

آخر تحديث: 14:15 (بيروت)

زمن المديوكر

الخميس 2018/02/15
زمن المديوكر
increase حجم الخط decrease
تجده في كل مؤسسة ومجموعة ومشروع. غالباً هو الواقف في منتصف السلَّم، يتولى المسؤوليات الوسيطة في التراتبية. لا فاشل ولا ناجح، ويستمر ويبقى وينتشر نموذجاً بالعشرات. قد يصعد السلالم باضطراد، خصوصاً في ثقافة "أعطوها لرَجُلِنا". يصبح "رجُلَنا" مع الزمن والتجارب في الاعتماد عليه لحفظ النظام. هو حارس الروتين، المستمتع بتركيب تفاصيله وجريانه، وفي الوقت نفسه، المتذمر من أنه لا يتيح له مجالاً للإبداع الخاص، لكن لا بد من شخص يقوم بهذه المهمة الأساسية.  

معجب بنفسه، يثمّن قدراته، ويضحي بكلّ "الجيّد" الذي يضطر إلى حرمان العالم منه، من أجل دوران العجَلة. هكذا، يحصل أحياناً أن يُكافأ هذا كله بدفعة على ظهر المديوكر ليعتلي السلّم. لكنه عموماً رجل الوسط: المناصب الوسطى، والمهام الوسطى، والأفكار والأداءات والمبادرات الوسطى. اللمعَة بالحدّ الأدنى، وكذلك المثالب، ما يكفي لاستمرار الإنتاج، بلا مفاجآت، لا سارّة ولا بغيضة، في الفن والإعلام كما في البزنس والسياسة والأكاديميا.

مراهق في منتصف العمر. والمراهقة ليست مرحلة عمرية نتجاوزها فحسب. تعريفها الثاني يلتصق بالمديوكر، ربما حتى آخِر العُمر. مراهَقة "الأنا" كمحور لدائرة من الأحداث والإجراءات والسلوكيات. دائرة في اتساع دائم، و"أنا" مسمّرة إلى يقين حاسم بأنها تتمتع بالثقل الكافي لاحتمال تفاقم الدائرة. المؤامرات، إن حيكت أو خيّلت إليه، فحَولَ هذه "الأنا". النكتة. تقدُّم قرين. كل من يناقش فكرته، لا بد أنه يريد أذيته، إحراجه فإخراجه، وإلا فلماذا يتحداه؟ التغيير أيضاً مؤامرة، مخاطرة، مكيدة، إرهاق لا لزوم له، فنحن مرتاحون هكذا. القيادة إن أتت من آخرين، قوّتهم. المنافسة. الحب. الإنجاز. التصفيق.

ولا تحسبنّ المديوكر ضعيفاً. إنما يقاتل بأسلحة خفيّة: السخرية سلاح. المرارة الهادئة إذ ينفثها في الهواء من حوله. الإكتفاء كفضيلة، والطموح للطمّاعين المتفذلكين. تثقيب الطموح. الحقائق التي يتبناها، ولا يقرّها سواه. المسطرة الرخوة لقياس الجمال والنجاح والتمايز، توضع في يد يستطيع إليها سبيلاً. بعض المديوكر ينخرط في دسائس، ليحمي مكانه. والبعض الآخر ينسحب متقمصاً فروسية الكفاءة الخفرة، وعزة نفس القادر المتمكّن المبدع. فهو لا يريد، لا يتنازل.. ولا مرة: لا يستطيع أو يفشل.

ولا تحسبنّ المديوكر جباناً بالمطلق. قد لا يواجه، لكنه يقول. قد لا يجاهر، لكنه واثق في نفسه، وهو صادق في ثقته هذه، لا يدّعيها، وإن ادّعى امتيازاتها. قد يؤلف كتاباً، أو ينخرط في حراك، أو يقيم معرضاً. يكتب مسرحية، يعمل على فيلم، على فيديو، على أغنية. زمننا الرقمي يعينه، يمنح تجرُّؤه مصداقية ما. ينشر ويبث ويحضر عبر السوشال ميديا، بمعادلات صفرية، بما فيها الكلفة. وإن سعى إلى عالم الواقع ومنصاته، جرّ معه إليها حمولة "لايكاته" و"مشاركاته". ثم، يكفي أن يتمتع بعلاقات – والعلاقات حظوة الواقفين على درجة المنتصف، تشبك الرؤساء والمرؤوسين، النجوم والقاعدة، القادة والعناصر الزحافة. ويكفي أن يمتلك جمهوراً متوسط الحجم، لنتاجه متوسط النوعية، حتى ينبري متوسط الإمكانات لعمل متوسط الفرص بأن يكون عظيماً. دور النشر، أصحاب الغاليري، مانحو التمويل، مديرو التحرير، منتجو السينما والموسيقى والمسرح، معظمهم يقول: سيجلب جمهوره معه.. وما الضير في "العادي"؟ بل إن العادي هو الفلتة الجديدة، حتى مجلات الموضة تؤكد أن الرمادي هو الأسود الجديد.. والجوائز تتكاثر كالأرانب، والفائزون قد يفوزون لأسباب كثيرة، الجدارة أحياناً واحدة منها.. فلنحتفل بأنصاف المواهب!

المديوكر مريح، مثل حذاء قديم، يلبّيك بسرعة وخفة، أداؤه متوقع ومضمون.

والمديوكر قد يعيق تطور محيطه، لكنه يفعل ذلك تدريجياً وبلا ضجة، بحيث أنه لا يوقظ ضمير الخَلق.

يقال إن الذنب ذنب الرأسمالية، الحداثة وما بعدها، الهرمية والشركاتية والليبرالية والبيروقراطية والدولتية وبقايا الاشتراكية والانترنت، معاً. ويقال إنها ضريبة الديموقراطية والدمقرطة. يصعب الإثبات. والتحليل قد لا يفيد في خربطة الحاصل. ثم، لماذا نفعل ذلك أصلاً؟ لكل زمن شخوصه، وهذا زمن المديوكر.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها