الأحد 2018/02/11

آخر تحديث: 07:45 (بيروت)

"داها" للتركي هاكان غونداي: الرعب الذي لا قاع له

الأحد 2018/02/11
"داها" للتركي هاكان غونداي: الرعب الذي لا قاع له
لو لم يكن أبي قاتلاً لما استطاع أن يحكي لي هذه القصة
increase حجم الخط decrease
إذا كنت ممن تشدهم النصوص الإبداعية التركية، فإني أنصحك أن تضع جانباً الآن ما بين يديك من روايات لأورهان باموك وأليف شافاك ونديم غورسيل وياشار كمال وسواهم. اسمع جيداً. هناك الآن شبح هائل يجوب فضاء الرواية التركية. ولد رهيب، أنفان تريبل، يقتحم المشهد بضراوة. إنه مشحون بموهبة عملاقة ولغة شرسة وأفكار مدهشة.

أنا بالتأكيد أتحدث عن هاكان غونداي، الذي هبط من لامكان واحتل الفضاء كله. رواية واحدة، مذهلة، تجعلك، إن تمكنت من قراءتها للنهاية، لأن ثمة احتمالاً ألا تكون لديك القدرة على تحمل ذلك، عاجزاً عن ألا تنفجر مشاعرك كلها دفعة واحدة.

رواية "داها" (المزيد)، سوف تدفعك بالفعل لأن تطلب المزيد من هذا الكاتب المبدع.
“لو لم يكن أبي قاتلاً لما استطاع أن يحكي لي هذه القصة ولما كنت أنا هنا لأرويها لكم”. بهذه الكلمات تبدأ الرواية. كلمات مليئة لتوها بكل ما سوف تطفح به الرواية من وقائع صادمة.  يتفوه بهذه الكلمات صبي في العاشرة من عمره. اسمه غازا وهو يعمل مع والده في تهريب الناس إلى أوروبا. يعمل الوالد مع ثلة من مهربي البشر. يأتي هؤلاء من أفغانستان أو العراق أو سوريا. يستقبلهم والد غازا و"يستضفيهم" في مكان آمن إلى أن تتم عملية تسفيرهم من جديد، إلى اليونان أولاً ومن ثم إلى الجنة الأوروبية الموعودة. أما المكان الآمن، الذي يمضون فيه الوقت الذي تستغرقه ضيافتهم، فهو خزان ماء هائل حول إلى ملجأ إيواء. الأب وابنه يستعملان شاحنات نقل الخضر في عملهم. شاحنات لا تنقل الخضر بالطبع.

هذه مهنة وحشية لا ترحم. البضاعة هم بشر غير أنهم يتحولون بالفعل إلى مجرد سلعة رخيصة ومهانة ومسحوقة. هذه مهنة قتل البشر. قتلهم رمزياً ولكن أيضاً فعلياً.


كان والد غازا قد أخبره مرة كيف أنه استطاع ذات يوم أن ينجو من الموت حين غرقت سفينة بحمولتها من البشر: انتزع سترة النجاة من رجل عجوز وراقبه وهو يغرق. هؤلاء مستعدون لفعل أي شيء، أي شيء على الإطلاق، في سبيل البقاء. تلقى الطفل الدرس. الفتى الذكي، الحساس، يتحول إلى وحش كاسر.

القسوة التي لا ترحم، إنعدام الضمير، إنعدام الرحمة، السادية القصوى، التعذيب المفرط، العنف المجاني، الإستغلال بأبشع أشكاله، الإذلال، الإغتصاب، السرقة، التشويه المتعمد، إنعدام الشفقة والتعاطف، غياب الحس الإنساني. تلك هي المفردات التي يمكن أن تصف ما يجري في ذلك العالم الرهيب.

هناك بشر تائهون قادمون من البلاد البائسة في آسيا وإفريقيا يسعون للوصول بأي وسيلة إلى جنة أوروبا. وشعارهم: طالما أن هناك جحيماً، بلادنا، فلا شك أن ثمة جنة، أوروبا.

يغادرون بلادهم الجحيمية بأيد فارغة، سوى كيس نايلون صغير تضم أشياءهم القليلة والتافهة، ليقعوا في جحيم أشد هولاً. يصبح جحيم بلادهم جنة مستعدون لبذل كل شيء من أجل العودة إليها، ولا يقدرون. لقد علقوا في مصيدة قاتلة. حرموا من بلادهم ولكن ليس في وسعهم الوصول إلى أوروبا. هذه هي مصيدة الموت. مصيدة اليأس المهلك، المدمر. لا طعام، لا ماء، لا حمام، لا نوم، لا ضوء، لا دورات مياه. والمهربون وحوش فتاكة تنهش أجسادهم وأرواحهم.
يوماً بعد يوم يفقد هؤلاء إنسانيتهم. في كل لحظة  يتكسر شيء في أعماقهم. تتهشم أرواحهم، يتحولون شيئاً فشيئاُ إلى كائنات بهيمية مرتدة إلى غرائزها البدائية لا يعود هناك ما يشغلها سوى التعلق بخيط البقاء على قيد الحياة، ولو أنهم كلهم في قرارة أنفسهم يفضلون الموت على ما هم فيه. غير أن غريزة البقاء تبقيهم وتروضهم. يتحولون إلى حيوانات تتقاتل من أجل أن تأكل وتجد فسحة تتمدد فيها كي تنام.
غازا يكبر ويتعرف إلى الحياة وسط هذه المعمعة الفتاكة. يجبر فتاة على ممارسة الجنس معه. بعد ذلك يصير المهاجرون يقدمون له في كل مرة فتاة لينام معها.

يضاجع جثة. يعيش ثلاثين يوماً محاصراً بالجثث. يشرب ماء المطر الملوث بدماء الموتى.


سعي حثيث من الكاتب، على طريقة دوستويفسكي، لتقصي حدود الشر لدى البشر. هوذا عالم سفلي، عالم الموتى، عالم الجريمة. إنها نوع من الجريمة والعقاب. ولكن من هو المجرم وما هو العقاب؟

تتقصى الرواية وقائع تجري أمام أنظار الجميع وتتواطأ فيها عصابات وأحزاب ودول وحكومات وتجري بدوافع الجشع والفساد والإستغلال والأنانية غير أن الرواية أبعد من أن تكون واقعية بالمعنى الفني للكلمة. هي أشبه برواية رعب سوريالية.

في زمن تشوهت فيه المعاني وتحطمت القواسم الإنسانية التي تجمع ما بين الناس فإن غازا هو بطل من هذا الزمان. و"داها"، المزيد، هي الرواية التي تسعى في رسم الشرط الإنساني الفظيع الذي تعيش فيه جموع هائلة من البشر فيما الجموع الأخرى ترى وتسمع وتراقب ومن ثم تنام وكأن كل شيء على ما يرام.


increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها