الثلاثاء 2018/01/09

آخر تحديث: 10:27 (بيروت)

"داعش" بوصفها غرباً: نص مضمر في ذاكرة مقتلات باريس

الثلاثاء 2018/01/09
"داعش" بوصفها غرباً: نص مضمر في ذاكرة مقتلات باريس
يلاحظ كتاب "الجهاد في الغرب" فشل الحداثة الغربيّة في وقاية إسلاميين
increase حجم الخط decrease
لنناقش "داعش" باعتبارها غرباً، ليس لتحميله مسؤوليتها، بل للإشارة إلى عمق التشابك بينهما.

بين إحيائه ذكرى مقتلة "شارلي إيبدو" في باريس وزيارته مسجد شيان الكبير في الصين، أعطى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إشارة أخرى إلى عمق الترابط بين ظاهرة "داعش" والغرب. وبكلمات تشي بعمق تضلّع التلميذ السابق للفيلسوف بول ريكور بمفاهيم التنوير (وهو شدّد عليها كثيراً في خطاب تنصيبه، ربما إلى حدّ مربك)، أطلق ماكرون تغريدة شدّد فيها النبرة على وحدة المجتمع الفرنسي وغياب الانتقام والثأر عن التصرّف حيال مقتلتي "شارلي إيبدو" (مصرع 11 صحافيّاً على يد الأخوين كواشي) ومتجر الـ"كوشير اليهودي" (مصرع 3 يهود فرنسيّين على يد أميدي كوليبالي)، وقريباً من الصمود والتمسك بالحرية. لم تشدد تغريدة ماكرون على كون المقتلتين من فعل جهة خارجيّة. وكذلك يحمل تشديده على وحدة المجتمع الفرنسي إشارة واضحة إلى ما يردّده دوماً عن كون مسلمي فرنسا هم جزء منها، بالتفارق عن نظرة اليمين العنصري لهم. وكذلك يميّزة تشديده على البعد الداخلي المجتمعي للمقتلتين السابقتين (وحوادث أخرى، كالاعتداءات التي نفّذها محمد مراح ضد أطفال يهود في فرنسا)، عن تصرّف الرئيس السابق فرانسوا هولند الذي اعتبرها فعلاً خارجياً إلى حد أن الإعلام المقرب منه تبنى تسمية "دولة" في الحديث عن "داعش"، مبتعداً عن تسميتها تنظيماً.

لنتأمل كرّة اخرى. هل أنّها مجرّد مصادفة أن يكون مراح وكوليبالي والأخوين كواشي، فرنسيّين، بل ولدوا كلّهم وترعرعوا في فرنسا؟ كيف تبدو من مسافة 3 سنوات عبارة أحد أقرباء كوليبالي: "لن يكون نسيبي الوحيد، سوف يظهر آخرون"؟

في ظل قعقعة السلاح العاتية في المشرق العربي الذي شهد بداية "دولة الخلافة" ونهايتها (في الجغرافيا السياسيّة وحدها، وليس في السياسة والاجتماع والثقافة)، ألا يجدر التفكير بأن ضربات الإرهاب الإسلاموي غرباً لم تأت كلها من خارجه، بل جاء قسم وازن منها من قلب الغرب. وإذا أُضيف إلى ذلك المكانة المحورية التي يحتلها الغرب في أفكار ذلك التطرف التكفيري المفضي إلى الإرهاب، ينفتح الباب أمام تفكير واسع عن علاقة متشابكة بين الطرفين.

وهناك مجموعة كبيرة من المفكرين الغربيّن الذين دقّقوا في تلك العلاقة، عبر تحليل مجريات الإرهاب الإسلاموي المعاصر وأفكاره. واستطراداً، برز تفكير غربي جريء نظر إلى أفكار ذلك الإرهاب بوصفها سرديّة كبرى في التاريخ المعاصر. وتتجلّى تلك المقاربة الجريئة في كتاب "الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة"(*) وفيه ينجح الباحث فرايزر إيغرتون، المختص في السياسة الدوليّة في "جامعة دالهوزي" الكنديّة، في رسم صورة بانوراميّة عمّا يرى أنه سردية كبرى للإرهاب الإسلاموي المعاصر. وتتضاعف الجرأة بأن يعطي الكتاب الغرب، خصوصاً الحداثة الغربيّة ودولها وتصرّفاتها وسياساتها الواسعة، مركزاً وازناً في تلك السرديّة الدمويّة.

واستدراكاً، لا يدرس الكتاب ظاهرة الإرهاب الإسلاموي كلّها، بل يركّز كليّاً على جزء منه يسمّيه "السلفيّة المقاتلة الغربيّة" (ص 09)، بمعنى تناوله تحديداً من انخرطوا في تنظيمات ذلك الإرهاب (خصوصاً تنظيم "القاعدة") ممن ولدوا في الغرب أو عاشوا فيه فترات طويلة" (ص 15).

وربما يدفع ذلك إلى التفكير إلى المدى الذي تمثّل فيه "داعش" شيئاً كثيفاً من التداخل بين الغرب وذلك الإرهاب. وسيراً على جرأة الكتاب، يمكن طرح سؤال عن مدى كون "داعش" ظاهرة غربيّة بامتياز. إذ يرفدها الغرب بأفراد متمرسين في التقنيات المعلوماتيّة المتقدّمة والتجنيد عبر الشبكات الرقميّة، ومقاتلين من دول تتمدّد فيها ظاهرة الإسلاموفوبيا، وخلايا نفّذت مقتلات لمصلحتها في فرنسا وألمانيا وبريطانيا وبلجيكا والسويد والولايات المتحدة وغيرها!


كيف يتطرّف؟ كيف يصبح إرهابيّاً- "غربيّاً"؟

بوعي واضح، يصف الكتاب فكرته الأساسيّة بأنها "مقاربة تحتل فيها فكرة المخيال السياسي موقعاً مركزيّاً... وذلك نظراً لمركزيتها في التحوّل عند المقاتلين الغربيّين... (فبفضلها) تحدث القفزة من غربي غير مقاتل إلى سلفي مقاتل" (ص 12). وبصورة لافتة، يتكرّر ظهور مصطلح "المخيال السياسي" المتّصل بمفهوم السرديّة الكبرى، على مدار صفحات الكتاب، بل يفرد لها فصله الثالث كله ("يأخذنا إلى كل مكان: دور المخيال السياسي" ص 77- 102).

ويضع الكتاب تلك السرديّة الكبرى في القلب من الإرهاب الإسلاموي المعاصر، بل إنها مصنعه الذي لا يكف على مدار الساعة عن إنتاج أفراد يسمّى كلاً منهم إرهابيّاً. ويرفض مقاربات غربيّة كثيرة سعت إلى تفسير الإرهاب بعوامل شخصيّة أو بحوادث سياسيّة سيّالة كاحتلال العراق وأفغانستان ومجازر الشيشان، على رغم أهمية تلك المعطيات في التفسير (الفصل الثاني: "ماهي مشكلة هؤلاء الناس" ص 39- ص 77).

في التاريخ، تصنع السرديّات الكبرى Meta Narratives انعطافات ضخمة وظواهر واسعة المدى وفائقة التأثير. وتقدّم الحداثة الغربيّة نموذجاً لا يزال حاضراً عن السرديّات الكبرى التي تغيّر مجرى التاريخ وتبدّل مصائر شعوب وأفراد ودول. إذ يكفي أن تتمدّد في الخيال السياسي للأفراد كي تبدّل أحوالهم وهويّاتهم وهيئتهم وكينونتهم، ونظرتهم إلى الإنسان والتاريخ والكون. يكفي أن تصل الحداثة فرداً ليصف نفسه بأنّه حداثي، ويهجر هويّته وكينونته ثم يشرع في العمل بدأب ليغيّر كل ما حوله ليصير متوافقاً مع ما ملأ دماغه وخياله منها.

وإذ تنتشر السرديّة الكبرى بين الأفراد، يصبحون قوّتها الدافعة التي لا تسعى إلا لتحويلها واقعاً ملموساً. في الغرب، أنتجت الحداثة (وربما مازالت)، أفراداً ومجموعات لا حصر لأعدادهم، وكلهم يعمل وفق رؤاهم عنها. ومهما تفاوتت الرؤى وتضاربت، بل حتى لو تصارعت وتحاربت، يبقى مخيال السرديّة الكبرى للحداثة في القلب منها. في روسيا، بدأ البلاشفة ثورة 1917 بشعار تقليد الحداثة الغربيّة (تحديداً الألمانيّة)، ثم سارت الأمور عبر مساقات تضمّنت الحرب العالمية، ليصبحوا مشروعاً نقيضاً لتلك الحداثة، بل انتج صراعهم معها حرباً عالميّة "باردة" كانت أطول من الحربيّن العالميّتين معاً.

وكي تنتشر، تحتاج السرديّة الكبرى إلى أفراد يؤمنون بها ويقنعوا آخرين بها، ووسائل اتصال ووسائل إعلام تتولّى نشر مضامينها ورؤاها تفسيراتها للتاريخ وحوادثه وتفاعلاته. ويفرد كتاب "الجهاد في الغرب" فصله الرابع لتناول وسائل حديثة (خصوصاً شبكة الانترنت ووسائطه الرقميّة ومواقع الـ"سوشال ميديا" المعولمة) تستخدم في نشر سرديّة الإرهاب الإسلاموي التكفيري، مع تبيان دورها في رفده باللحم الحي التوّاق إلى الانتحار! ويكفي القول أن عنوان ذلك الفصل هو "وسائط الإعلام الشاملة وتكوين المجتمع المقاتل" (ص 103- 136).

دموية غير مجانيّة
يلاحظ كتاب "الجهاد في الغرب" فشل الحداثة الغربيّة في وقاية إسلاميين يعيشون في دولها وأنظمتها وحضارتها، بل يتتبع خطوط الفشل النافرة عبر تبيان أنّ العداء للغرب هو ركن أساسي في سرديّة ذلك الإرهاب. ألا يكفي ملاحظة حرصها المكين على تبني مظالم إسلامية شائعة عن استهداف الغرب الحداثي البلدان المسلمة وشعوبها، وعدم عدالته تجاه قضاياها كالشيشان وكشمير وفلسطين واحتلال العراق والنكث بوعود أغدقت على العرب عشية ثورتهم ضد الخلافة في الحرب العالمية الأولى وغيرها. وكذلك يضاف إلى تلك المظالم التمييز المتطاول ضد المسلمين في الغرب نفسه الذي يعتبره الكتاب من المؤثّرات الأساسيّة في تحول بعض نفر من مسلمي الغرب إلى الإرهاب (ص 173- 184).

وفي الفصل السادس (ص 167- 200)، يدخل الكتاب إلى المياه الأكثر اضطراباً في ظاهرة "السلفيّة المقاتلة الغربيّة": العلاقة بين القلّة التي تتبنى الإرهاب وسرديّته من جهة، والجموع الضخمة من المسلمين والقلة التي تمارس الإرهاب مدّعية أنها تمثّلهم، بما فيها الكتل الاجتماعيّة المسلمة في بلدان الغرب. وببراعة، يفصل الكتاب بين الأمرين. هناك ثقافة واسعة الإنتشار بين جموع المسلمين عالميّاً تحضر فيها ظلال المظالم السياسيّة والآراء المتصادمة مع حداثة الغرب، وهي لا تؤدي بالضرورة إلى الإرهاب، بل يغلب عليها رفضه. وفي المقابل، يعمل الإرهاب بناء سرديته عبر تحريف تلك الثقافة بأنّ يُدخِل إليها فكراً تكفيريّاً يتبنى العنف والإرهاب، خصوصاً كتابات سيد قطب والمودودي. وعبر ذلك التكفير، يتوفّر المخيال السياسي الذي هو وقود نار إرهاب تديره قوى كبرى وأجهزة استخبارات ومصالح متشابكة لدول متصارعة.



(*) صدر ضمن سلسلة "ترجمان" عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، وترجمه عن الإنكليزيّة فادي ملحم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها