الجمعة 2018/01/05

آخر تحديث: 10:14 (بيروت)

الحرب السورية.. والماعز

الجمعة 2018/01/05
الحرب السورية.. والماعز
increase حجم الخط decrease
يكفي مسرح "رويال كورت" اللندني أن ينسب له الفضل في إلغاء الرقابة على المسرح في المملكة المتحدة في العام 1968، وذلك إثر الضجة التي كان يثيرها بين الحين والآخر. فبعدما رفضت إدارة الرقابة التصريح لثلاثة عروض لمسرح "الرويال كورت" الواحد تلو الآخر، بين عامي 1965 و1966، وأصرت على مثول المسؤولين عن عرض آخر أمام القضاء، فإن المعركة الطويلة التي خاضتها إدارة المسرح، وفرقته، انتهت أخيراً بإجبار البرلمان على إلغاء قانون اللورد تشامبرلين، بعد 231 عاماً من سريانه.

لا يثير "الرويال كورت" الكثير من الضجة هذه الأيام، وإن كان لا يتوانى عن تقديم ما يلفت الانتباه أو الفضول على أقل تقدير. ففي 24 تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، افتتح المسرح عرضاً بعنوان "ماعز"، من تأليف الكاتبة السورية، لواء يازجي، وكانت الحملة الدعائية للعرض قد ركزت على أن ستة من الماعز ستشارك فعلاً في بطولته.

يرفع الستار عن عدد من التوابيت المرصوصة على المسرح، وفوقها صور "شهداء الوطن" من الجنود صغيري السن، فيما تذيع الشاشات المتدلية من سقف المسرح صوراً لحقول من الزهور، ممهورة بنص " كل شيء على ما يرام".  تجرى مراسم الجنازة كما يجب، فيما تتجول المذيعة ذات الشعر الأشقر المستعار، بين أهالي القتلى، لتهنئهم على نيل ذويهم الشهادة، ويخطب مسؤول الحزب فيهم عن المجد الذي ينتظرهم في تاريخ الأمة.. إلى أن يقاطع المدرس العجوز أبو فراس، كل هذا، مطالباً بفتح تابوت ابنه ليرى جثته، ويعرف ما حدث له فعلاً. للوهلة الأولى تبدو المواجهة بين أبو الطيب - ممثل الحزب، وبين أبو فراس، تكراراً للمواجهة التقليدية بين البروباغندا النظامية، وهؤلاء الرافضين للانصياع لها، بحثاً عن الحقيقة، لكن نص يازجي يفاجئنا هنا كما يفاجئنا في أكثر من موضع.
 
فالمسرحية، لا تقدم للجمهور البريطاني، السوريين، بوصفهم لاجئين كالعادة، بل تفتح عيوننا على قصص هؤلاء الذين بقوا في الداخل، بإراداتهم أو ضدها. ولا تجري أحداثها حول معاناة هؤلاء الذين تسقط عليهم براميل النظام، كما هو متوقع، بل تدور في قرية يسيطر عليها النظام السوري، ويؤمن الكثير من سكانها بأن أبناءهم على الجبهة يحاربون الإرهاب. لا تطرح مسرحية يازجي عقدة "أورويلية" تقليدية عن الزيف السلطوي، بل تلقى بنا في خضم الأكاذيب التي يتبناها الناس عمداً، وبأنفسهم، بكل وعي، ليكونوا قادرين على الاستمرار في الحياة، في خضم الحرب والمأساة، ولتعوضهم عن الفقد والخسارة والغياب.
 
يعلن أبو الطيب، عن مشروع حكومي لمنح كل أسرة من أهالي الجنود الشهداء، معزاة، كتعويض لهم واعتراف بفضلهم. ويبدو مشهد تسليم الماعز أمام شاشات التلفزيون، سوريالياً، ومهيناً ومخزياً بالطبع. لكن المفاجئ، هو تكشف ذلك التعلق الذي يبديه الأهالي بالماعز، مشهداً بعد آخر، والبهجة التي يثيرها عبثهم على المسرح لدى الجمهور. تقتصر إشارات المسرحية إلى سياق الحرب السورية، على الحد الأدنى. فالعرض متعلق بالحرب في عمومها، والمأساة بشكل أوسع. وقالت يازجي في حوار سابق حول نصها: "سوريا ليست الحرب الأولى، ولن تكون الأخيرة". 

لكن المسافة التي تأخذها "ماعز" بعيداً من سياسة الحدث، لا تبدو كافية لتدعيم جمالياته الفنية، فمشاهد المسرحية تبدو متعثرة في معظمها، وتفتقد للتركيز، وتندمج شخوصها في منولوجات طويلة، تقريرية وخطابية، تكرر نفسها مرة بعد أخرى. ولا يبالغ الناقد البريطاني، أليكس سيرز، حين يكتب تعليقاً على تواضع مستوى العرض: "ليس هناك أدل على ذلك، أكثر من أن الماعز يحظون بتصفيق أكثر من الممثلين"، أو حين يوجز عرض جريدة "التليغراف" للمسرحية بأنها تدور حول "ستة من الماعز تبحث عن مؤلف".
 
لكن ومع أن تغطية الحضور الاستثنائي للماعز في المسرحية، على النص والممثلين، ربما لا يكون متعمدا بالكامل، إلا أنه ربما يكون المحتوى الأثقل في العرض. فالماعز، ذلك التعويض المهين عن الموت والمأساة، يتحول إلى مصدر لبهجة الجمهور، وتعزية لأهالي الضحايا، ووسيلتهم للتطبيع مع عبثية الحرب، وفظاعاتها. يثير الأمر، بطريقة أو بأخرى، بعضاً من الاضطراب: أليست الألفة مع تلك الحيوانات العابثة على الخشبة، والضحك لقفزاتها المفاجئة، تطبيعاً من نوع ما، من جهة المشاهدين، مع الحرب؟ أليست قهقات الجمهور أمام المشاهد العبثية للمسرحية، وحواراتها، قبولاً، ولو في حده الأدنى، بالمأساة المستمرة؟ والأهم، أليس تدجين فظاعات الحرب السورية، بوصفها مجرد حرب أخرى، نزعاً متعمداً لملامحها، ووضعاً لأطرافها جميعاً في الميزان الأخلاقي نفسه؟ 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها