الخميس 2018/01/04

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

مأساة جورج نصر

الخميس 2018/01/04
مأساة جورج نصر
جورج نصر في مهرجان "كان"
increase حجم الخط decrease
ابتداء من اليوم الخميس، ستعمد سينما "ميتروبوليس" إلى عرض فيلم "إلى أين؟" لجورج نصر، بالإضافة إلى فيلم معنون باسمه الأول. طوال أسبوع، سيجري تكريم هذا المخرج، وذلك، في سياق الإحتفاء به على إثر عرض مهرجان كان لـ"إلى أين؟" ضمن كلاسيكياته في العام الماضي.

وحين تقدم "ميتروبوليس" على خطوتها تلك، تبدو أنها تكلل تجربة المخرج، بطريقة وجيزة، صحيح، ولكن، بطريقة محكومة بفوات الآوان أيضاً. ومرد هذا، ليس لأنه المخرج صار تسعينياً، بل لأن تجربته، والقصيرة بدورها، في صناعة السينما هي خلاصة التاريخ الرسمي للفن السابع في البلاد، التي تنطوي على ضرب من ضروب المأساة. وبالطبع، الكلام هنا عن رسمية هذا التاريخ لا يعني حضور غيره على الرغم من المحاولات  فيه.


بدأت تجربة نصر من انحرافه عن أمر الأهل، إذ إن إخوته، وبسبب عمل الأب في التجارة، درسوا المحاسبة في حين أنه توجه إلى دراسة الهندسة المعمارية، قبل أن يتغلب حبه للسينما على تخصصه العلمي المتعثر، فيمضي إلى إثباته. حصّل هذا الحب الفني أكاديمياً في لوس أنجليس، وتنفيذياً في استديوهات هوليوود وفرنسا، ولاحقاً، قرر العودة إلى الأهل، وهم، في هذا السياق، البلد بأكمله، لكي يؤسس لما شاهده واختبره في الخارج، أي سينما محلية. أخرج فيلم "إلى أين؟" (1958)، ذهب به إلى مهرجان كان، إلا أنه، ولما رجع به إلى لبنان، جمهور الأهل لم يستقبله، وذلك، مع أنه يدور بوقائعه عن الشريحة المهاجرة منهم، فخلال غياب نصر عنهم، كانوا قد اعتادوا على السينما المصرية والأميركية. كان هذا أول النفي، الذي تعرض نصر له، وعلى إثره، وبعد ثلاث سنوات من "إلى أين؟"، أخرج "الغريب الصغير"، الذي تناول فيه قصة فتى يراهق وينضج في عالم الرجال. ولكن، النفي استمر، وطال هذا الغريب، أي المخرج وفيلمه، من جديد، فقد رفضت الصالات عرضه.

غدا نصر سينمائياً بلا سينما، ومنتجاً بلا ربح، وقبل كل هذا، كان نصر فناناً بلا مكان، وبالتالي، كان لا بد له أن يفتش عن هذا المكان، الذي يضمن فيه التوازن بين سينمائيته وإنتاجه، وفي الوقت نفسه، يسوي داخله صلته مع أهله. فوجد مكانه هذا في الدولة، وفي مؤسستها العسكرية على وجه الدقة، عامداً إلى إخراج أفلامه القصيرة عن الجيش اللبناني، وإحترام الأهل له، عدا عن إخراج أفلام وثائقية عن بلدهم. فقد تمسك الغريب بنضجه، الذي لاح في فيلم الطويل الثاني، وراح يصنع صورة تربط الدولة بأهلها، ولما كان هذا وضعه، قرر التأكيد على أنه ما عاد الغريب، بل إنه كبر، متحولاً إلى ابن، يسعى، وبعد وفاة أبيه، إلى تخليص أهل قريته من الدخيل فيهم، والزارع للفتنة بينهم، وهذه قصة فيلمه "مطلوب رجل واحد". وعلى هذا النحو، الغريب صار راشداً، وصار يصطاد الغرباء بين أهله.


ظن نصر أن غربته حيال أهله قد تخففت عبر وسيط الدولة، إذ عمل على صنع صورة لهما. لكن هذه الصورة لم تتواصل. فحرب الأهل ودولتهم سرعان ما اندلعت، مبقيةً غريبها السابق على هامشها، حيث استمر في إخراج الأفلام الوثائقية، وعاود التفتيش عن مكان ثان له، يقيه انهيار المكان الأول. جهد في تأسيس نقابة لتقنيي الأفلام، فلم يفلح، وصندوق لدعم السينما المحلية، فلم ينجح. انتهت الحرب بلا أن يخرج فيلماً طويلاً، يضيفه إلى أفلام غربته، وعندها، تبدل من مخرج إلى مدرس في الجامعة. هناك، شرع نصر في نقل تجربته المحتبسة إلى أولاد الحرب إياها، فإذا استفهموا منه عن غياب السينما المحلية، يعيد سرد قصة "مطلوب رجل واحد" على مسامعهم، مخبراً إياهم عن الدخيل المصري والغربي عليها، وإذا استفهموا منه عن معنى هذه السينما، يقارن لهم بين الكاميرا والريشة، وإذا سألوه عن امتهانها، يحدثهم عن الحظ، الذي يتمناه لهم، أما، وإذا سألوه عن التلفزيون، فيلتبس الأمر عليه، متأرجحاً بين ذمه ومدحه. فنصر لا يريد تعليمهم دواعي انتقاله من الشاشة الكبيرة إلى الشاشة الصغيرة، ولكن، أن يحميهم من شر الغربة فقط. نقل نصر هذه التجربة إلى تلاميذه، علّهم يستكملونها، وإذا لم يفعلوا، يكون قد ذاع بها بينهم على الأقل، وحينها، يجد في شهرته سبيلاً لتسكين غربته أكثر، فلما لا ما دام حلمه الهوليوودي الأساس كان أن يغدو ممثلاً، لا مخرجاً؟!

إلا أن هؤلاء التلاميذ شبوا وشابوا، وتوزعوا بين إخراج الدعايات، والفيديوكليبات، والمسلسلات، والوثائقيات، والأشرطة الممهورة بصيغ نمطية، تقسم نفسها على أساس ثنائية "تجاري" و"بديل". وقد كان نصر، ومن جامعته، مطمئناً إلى أن مكانه مصان بينهم، نظراً إلى أنه درسهم، أو تحدثوا عنه لزملائهم في المهنة. ودليله على ذلك، أن مخرجة شهيرة، تدعى نادين لبكي، عنونت فيلمها بـ"هلق لوين؟"، وهو عنوان قريب من فيلمه الأول "إلى أين؟". ذهب نصر إلى صالة العرض، حيث يجري إطلاق فيلم لبكي، عرفها عن نفسه، لكنها، للأسف، لم تعرفه. سقط المكان بين التلاميذ، واستنتج نصر: «هناك نكران للماضي السينمائي من قبل الجيل الجديد». وهكذا، الابن، في "مطلوب رجل واحد"، صار أباً، أي من عديد الأهل، وغدا يقرع أبناء تجربته، التي لم ينقلها لهم سوى لحمايتهم من الغربة، وهم، بدورهم، داوموا على هذه التجربة بدون أن يشعروا بالغربة. لم يتجاوزا مدرسهم، أكلموا ما بدأه، ولكن، حلوا في مقاصد مختلفة عن مقاصده.


فعندما لاح بـ"إلى أين؟"، وبمعية "أبوط برادكشون" و"مؤسسة سينما لبنان"، في مقصدهم الرئيسي، أي مهرجان كان، من جديد، إنتبهوا إليه، وشرعوا في الإحتفاء به، فاتحين صالات مدينتهم إليها. ولكن، التكريم هذا ينطوي على تكليل لنفي نصر، نفيه الأهلي ونفيه الذاتي. لقد قال نصر عن "إلى أين؟" بأنه "مأساة حياته"، التي لم يقدر على التخلص من غربتها من خلال الأمكنة التي فتش عنها، ولم يستطع زيادة أفلام طويلة أخرى عليها لكي لا تعود سلبية. مأساة بدأت في مهرجان كان، وانتهت إليه، الأهل رفضوها، وأبناء حربهم كرموها بدون أن يدركوها، ذلك، أن مدرّسها لقنهم التغاضي عنها حين نقل تجربته لهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها