الخميس 2018/01/04

آخر تحديث: 14:24 (بيروت)

الإيرانيات وحيدات

الخميس 2018/01/04
الإيرانيات وحيدات
وقفة هذه الشابة الأيقونة سبقت التظاهرات الاحتجاجية ولم تكن من ضمنها
increase حجم الخط decrease
مذهلة الصُور المتقاطرة، عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، للنساء الإيرانيات. جميلة ومبهرة، تُكبّر القلب والعقل والروح. أيقونات حقيقية. ودروس متوالية في الشجاعة والإصرار والنضال السياسي والحقوقي والنسوي.

تغري حراكات الإيرانيات، اليوم، بكثير من التأمل والتحليل، زيادة على التحية والمناصرة المستَحَقّتين منذ استحواذ الثورة الخمينية على مفاصل الدولة والمجتمع. لكن، قبل ذلك كله، لا بد من فرز ملابسات دقيقة، وغير بسيطة البتة، تلفّ النظرة الرائجة إلى حضور النساء في الاحتجاجات المستمرة في إيران منذ أكثر من أسبوع فأوقعت حتى الآن أكثر من 20 قتيلاً واعتُقل على إثرها نحو 450 شخصاً.

يجب التوضيح: الإيرانيات لسن قائدات الاحتجاجات الراهنة، رغم حلاوة الفرضية. الإعلام العالمي غالباً ما ينجذب إلى صورة نساء مسلمات يتحدّين القمع الديني والاجتماعي والأمني، ولعله لا يُلام. فالصورة "مثيرة" فعلاً، مفعمة بأدرينالين البصبصة على تلك "المحتجبات" لكن القويات، صارخات بخلعهن أردية التعسف، هاتفات بأجسادهن قبل أصواتهن، غير آبهات بالعواقب. وفي إيران، تكتسب الصور بريقاً إضافياً عن صُور التونسيات والمصريات والسوريات والكرديات. لعل السعوديات هن الوحيدات اللواتي ضاهَين الإيرانيات جاذبية في العين الخارجية مؤخراً، باعتبارهن أيضاً يعشن في كنف دولة ومجتمع مرتكزَين على الدِّين والقبَلية الذكورية في صوغ القوانين وأبسط ملامح الحياة اليومية والفردية وأحكام اللباس والتنقل والاختلاط. ومع ذلك، تبقى الإيرانيات متفوقات "إكزوتيكياً" باعتبارهن الساعيات إلى التغيير والمتكبّدات أثمانه. في حين أن السعوديات، رغم النضال المرير لكثيرات منهن، تلقَّينَ التغيير من أعلى، كمكرمة من السلطة الجديدة ومشروعها "الإصلاحي"، وهي – بالمناسبة – سُلطة لا بد من الاعتراف بحنكتها، إذ عرفت من أين تبدأ (السماح للمرأة بقيادة السيارة)، وبأي منحى تخاطب الغرب والعالم (بالنساء أولاً، أو بالأحرى برفع شيء من الأحجبة القسرية المسدلة عليهن رمزياً وحرفياً).

والحال، وعلى عكس المزاج العام لمطلقي شرارة "الثورة الخضراء" في العام 2009 من أبناء الطبقة الوسطى، فالأرجح أن المتظاهرين المحتجين في إيران راهناً (طبقة عاملة، محافظون، متحدرون من الأطراف دون المراكز المدينية الكبرى)، ليسوا الفئة التي ترحب بالنساء بين صفوفها بالمطلق، لا سيما المُطالِبات بحرية الملبَس وما يجره هذا المطلب الأساس من حريات شخصية. النساء، بمختلف فئاتهن العمرية ومستوياتهن التعليمية والاجتماعية، مشاركات بالطبع، وهاتفات ضد الفساد وتكبيل الحريات والأداء الاقتصادي المتردي لحكومة الإصلاحيين خلافاً لوعودها الانتخابية البرّاقة. لكنهن لسن راية التظاهرات، ولا رأس حربتها المنتدبة من قبل الجموع الغاضبة. كما أن تقارير جدّية تؤكد أن الصورة التي كُرّست أيقونة للحراك الجاري، حيث تظهر فتاة واقفة على منصة وقد خلعت حجابها وأخذت تلوّح به كرَايةٍ سلام وتحدٍّ في آن واحد، التقطت قبل اندلاع سلسلة التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة بساعات. والمؤكد أيضاً أن الإيرانيات لم يتوقفن عن التحرك لرفع الحجاب القسري وتحدي السلطات السياسية – الدينية، بأشكال وحملات مختلفة منذ العام 1979. ولما تقدّمت حكومة روحاني بمبادرة اتجاه الحراكات النسائية هذه، فأعلنت التوقف عن اعتقال النساء اللواتي يخلعن الحجاب في الحيز العام، فإن "التنازل" الكاريكاتوري هذا استفزّ الناشطات، إذ استبدل الاعتقال بإجبار "المُرتكِبات" على الجلوس في "محاضرات توعية" تنظمها الشرطة، مع التشديد على أن المخالَفات المتكررة في هذا المجال تُعرّض مُقترفاتِها "لإجراءات قانونية".

وبالعودة إلى التأمل في الجزء النسوي من الاحتجاجات الإيرانية، وبعد التأكيد على واجب التضامن والدعم، في السياق الإيراني الداخلي، وبكل الأشكال الممكنة.. يتبدّى وجه خارجي لحراك الإيرانيات. فتظهر مفارقات مثيرة للاهتمام، يتشابك فيها السياسي بالجندري والثقافي والحقوقي، لعل أبرزها التحدّيات التي تطرحها على العالَم بأسره، بشرقه وغربه، بعلمانييه وديموقراطييه وليبرالييه، بعَرَبِه ومسلميه.

ففي أميركا مثلاً، تتعالى أصوات اليمين بالوقوف إلى جانب حراك الإيرانيات ضد الحجاب المفروض عليهن. وفي قلب الخطاب هذا ازدراء صريح لـ"مسيرة النساء" ضد الرئيس ترامب العام الماضي، وسخرية من الأميركيات حائكات القبعات الزهرية والمناهضات لخطاب تحقير المرأة ولتهشيم مبادئ المساواة في العمل والعائلة ولمحاولات سلبها حق النساء في صناعة خياراتهن الإنجابية (الإجهاض). يقولها اليمين الأميركي بفجاجة تشبه وعيه: "لقد أظهرت الإيرانيات خواء النسويات الأميركيات". أما ليبراليو ويساريو أميركا، فمتأرجحون بين تأييد قضية هي في صلب إيمانهم بالعدالة والحرية والمساواة، وبين خوفهم من أن يصبحوا – رغماً عنهم – صدى لخطاب ترامب. وهناك أيضاً الخوف على "أصالة" الحراك الذي – برأيهم – قد يضرّه التضامن أكثر مما ينفعه، لأنه سيعطي حججاً قوية لمَن يتهمونه بأنه يُحرّك بأصابع خارجية. كما أنه يصعب على الديموقراطيين الإقرار بهمجية السلطة التي قدمها أوباما باعتبارها جهة صالحة للمفاوضة ثم عقد معها اتفاقاً نووياً. وهؤلاء يتوهون أحياناً في ما يكونه "الصواب السياسي" ههنا: فبالأمس كانوا يتظاهرون وبينهم نساء ارتدين العلم الأميركي كغطاء للرأس، تضامناً مع حق الأميركيات المسلمات في ارتداء الحجاب بلا وصمة، ومناهضةً لقرار ترامب حظر دخول العديد من مواطني دول ذات غالبية مسلمة، فهل يقولون اليوم أنهم ضد الحجاب؟ أم ضد فرضه؟ وكيف يُرسَم الحد الفاصل ههنا بين الثقافة الإسلامية والسياسة الإسلامية؟ ولا حاجة للقول إن بعض اليسار الأميركي الأحمق يتناغم، وبلهاء الممانعة في بلاد العرب والمسلمين، في نظرية "المؤامرة الأميركية – الإسرائيلية" على إيران لتقويضها من الداخل باعتبارها حصن "المقاومة" الحصين، ضد إسرائيل والامبريالية الغربية.

ورغم بعض الوقفات التضامنية في مدن أوروبية، فإن أوروبيين كثر، علاوة على الخطاب اليميني الصاعد بينهم، ضائعون بين الإسلاموفوبيا، وبين الإيمان بقضايا الديموقراطية والمساواة والذي قد يحتّم عليهم مراجعة قراراتهم في فتح حدودهم للاجئين ولاجئات، مضطهدين دينياً وسياسياً في أوطانهم. أما العرب والمسلمون، فإن عقلانييه، نساء ورجالاً، لم يتمكنوا حتى الآن من أن يكونوا رافعة متماسكة ومؤثرة في قضاياهم التحررية المحلية، فكيف بالنسويين/النسويات منهم؟ وكيف بالتضامن مع الإيرانيات؟ وهُم أيضاً غير قادرين على تحجيم نظرية التخوين و"خدمة إسرائيل"، رغم الانكشاف الأخلاقي والسياسي المبين لخطاب "المقاومة" البائد هذا، في لبنان وسوريا والعراق واليمن، وخصوصاً في فلسطين.

وبذلك تمسي الصورة الواقعية على النحو التالي: الإيرانيات الجميلات الباسلات، وحيدات.. إلا في ما يضعننا أمامه من معضلات، تؤكد عجزنا وبؤسنا، وتحتم علينا إعادة صياغة الأسئلة الصحيحة، بدلاً من الغرق في مساعٍ لإجابات مغلوطة. وكل إنجاز يحققنه، لا فضل لأحد فيه إلا لهن.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها