السبت 2018/01/20

آخر تحديث: 11:43 (بيروت)

"لا أعرف ماذا أنتجت"

السبت 2018/01/20
"لا أعرف ماذا أنتجت"
لا يمكن فهم هذه المقولة "الفنية" إلا في سياق "البرتلة" أو التحول إلى البروليتاريا
increase حجم الخط decrease
طوال الوقت، وفي إطار الإعلان عن عمل فني جديد، يمضي صاحبه، عبر مقابلة أو محاضرة، إلى القول: "لا أعرف ماذا أنتجت"، ذلك، أنه يطرح عمله بلا إلمام به، أو فهم له، مكتفياً بالحديث البسيط عن طرزه، كالإشارة إلى أنه فيلم، أو عرض أدائي على سبيل المثال. تتوالى هذه المقولة، ما يدفع إلى التساؤل عن مأتاها، الذي تجيء منه: ما الذي يغذي حضورها في عالم الفن، ما الذي يجعلها ملفوظاً طاغياً؟ وهذا قبل أن تذيع غايتها الشقية، وهي منح المتلقي عطية تأويل العمل، على اعتبار أنه، وبهذه الطريقة، يشترك فيه، وقبل أن تسارع الصحافة التعيسة إلى إطلاق لغوها على العمل إياه، ووصفه بـ"التجريبي" كيفما اتفق.


حدد برنار ستيغلر البرتلة (التحول إلى بروليتاريا، proletarisation) بأنها مسار لتجريد الفاعل (المنتج أو المستهلك أو المبتكر) من معارفه المختلفة (معرفة-العمل، معرفة-العيش، معرفة-الإدراك والتنظير). وقد شدد ستيغلر على أن  الطبقة العاملة هي أول طبقة تصيبها البرتلة، لكن هذا لا يعني أنها لا تصيب طبقات المجتمع كلها، بل العكس تماماً، فالبرتلة تعبرها جميعاً. لا يمكن فهم مقولة "لا أعرف ماذا أنتجت" سوى في هذا السياق. ذلك أن عالم الفن، وكعالم الثقافة على العموم، هو عالم بروليتاري، منذ أن اقترن بالكامل بعجلات السوق الضخمة والضاخة، ومنذ أن أضحى العمل الفني فيه مجرد بضاعة، تريد أن تجد سبيلها، وبين بضائع أخرى، إلى مشتريها الذي قد تصادفه بين جمهورها، والذي يسمى معجباً بها ومقتنيها أو جامعها أو محتفظاً بها. كل هذا العالم يذهب إلى حصر إنتاجه في هدف واحد، وهو إيجاد مستهلكه، ومحاولة جذبه، أو شدّه على وجه الدقة.

في لبنان، هذا العالم، برتلته بائنة، رغم كونها مستورة بخطاب محدد، سِمته أنه يدعي التجاوز، وينطوي على تصور مضر عن التحرر الذاتي. "لا أعرف ماذا أنتجت"، تعني، وبحسب هذا الخطاب، "أتجاوز دوري كمنتج، أتجاوز درايتي بعملي، فلا داعي للدور والدراية، أنا حر، ذاتي الفنية، وأي شيء تفعله، ولأنها تفعله، يكون عملاً من أعمالها، لا سيما أن عرضه مكفول مسبقاً". لكن هذا التجاوز ليس تجاوزاً البتة، بل هو إنكار لتهدم معرفة-العمل، وقفز فوق حطامها، والاعتقاد بأن إظهار انعدامها هو ضرب من الحرية. على أن معرفة-العمل تتصل بمعرفة-الإدراك والتنظير. وإذا كانت الأولى محطمة، فالثانية لا تستوي سوى على ركامها، الذي يقتضي من الفنان إياه أن يرتبط بوعي زائف، يغذي استلابه عن أي ضرورة، من المفترض أن فنه مقترن بها (ما ضرورة هذا الموضوع الذي أختاره، ماذا أحاول القول عبر انشغالي به؟)، ويبعده عن حقيقة وضعه، ويبدد شكّه فيه. الشك الذي يرافق أي إبداع، مستبدلاً إياه بيقين حتمي (هل إجرائي لعمل، وطلبه، وعرضه، هو الوحيد الذي يؤكد أني فنان؟). يتركز هذا الوعي الزائف من خلال موت النظر، ولأجل تجنب جنازته وإتمامها، إما، يجري لعنه (بلا تنظير، بلا تفلسف، وهذه العبارة تحضر، وبكل هزل، في مقالات عن الفن)، أو يجري استدعاء شغيلته، أي المقدّر أنهم منظرون، لكي يحشدوا كلماتهم حول العمل الفني، جاعلين منه تحفة. وإذا غاب هؤلاء، يحل النقاد أو الصحافيون مكانهم، ليؤدوا وظيفة المروجين فقط لا غير.

لكن، البرتلة لا تتضح في إنتاج العمل الفني، في تحطم معرفة-العمل ومعرفة-الإدراك والتنظير فقط، بل تتضح في تلاشي معرفة-العيش أيضاً. ومن علامات هذا التلاشي، قد يصح الوقوف على أمرين: ملفوظ ونمط. الأول، ملفوظ يردده الفنان نفسه، "أفتش عن مكانِ، حيث أجلس وأعمل بمفردي أو وجهاً لوجه مع غيري من دون أن نزعج بعضنا البعض، فأين أعمل في هذه المدينة؟". فالبرتلة، وغير أنها مسار لإزالة المعارف المذكورة أعلاه، هي مسار لتفكيك مكان العمل الذي يتقاسمه الشغيل فيه مع زميله، ومع اضمحلال هذا المكان، تبدأ الإستعاضة عنه بأرجاء أخرى، لا توفر ما يوفره: الإحساس بالعمل، والإحساس بأنه مفيد، ليس بتقاضي ثمنه فحسب، بل بأنه يشكل تفريداً لممارسه، وفضاءً ينتسب إليه. الفنان إياه، وعلى الرغم من ترداده "أنا أشتغل، أشتغل" لكي يؤكد أنه يعمل، ولو كان في تلك اللحظة يتابع أخبار صحبه في "فايسبوك"، لا يشعر أنه يعمل. وهذا، لكونه، وبحسب ستيغلر، بمثابة مستخدم في مكان مفكك. مع الملاحظة أن ذلك الملفوظ، الذي يتعلق بالتفتيش عن مكان للعمل، يصرح به الساعون إلى الإنخراط في عالم الفن كدليل على انتمائهم إليه، بحيث أنهم يبدلونه إلى علامة تثبت تحولهم إلى فنانين. وذلك، بغض الطرف عن مضمونه، وعن قساوته، وعن كونه يتطلب معالجة فعلية، وليس إلى قراءة تلك الكتب النصائحية التي تشبه كتالوغات الإستعمال: خمس طرق تجعلك تعمل جيداً.

لكن برتلة الفنان، وعدا عن بيانها في ملفوظه هذا، تظهر في نمط عيشه، وهو نمط الطبقة  المستهلكة، الذي يعتقد أنه، وكلما أفرط فيه، ما عاد بروليتارياً. الإفراط، في هذا السياق، قد يقترن بخطابٍ ونقيضه: يأكل "بيو"، أو يأكل "جانك فوود"، في الحالتين، يستهلك. الإستهلاك، والإفراط فيه، يصيغ علاقته بكل شيء، من الأشياء إلى المنظور الذهني، مروراً بالاجتماع، ويؤدي إلى عدميةٍ، ليس صدفة أنها سائدة في أوساط الفن والثقافة، عدا عن السياسة، وغيرها. غير أن زعم الانصراف من البرتلة، وهو زعم يشير إلى تفاقمها، لا يتطلب المضي في الإستهلاك، المنفلت أو المنظم فحسب، بل الإقدام على الإنغلاق، على نفي أي بروليتاري لا يلتزم بنمطية إخفائها. فيكره ذلك الفنان البروليتاريا غير الملتزمة بمعاييره، يقصيها، يتمنى زوالها، لكي يثبت لذاته بأنه ليس بروليتارياً. إلا أن العكس هو الصحيح، فكلما نفاها، فهذا يعني أنه بروليتاري، حتى لو إقتنع بأنه أذكى منها.

ثمة مسلك يستوقف الإنتباه في عالم الفن، وهو أن أعضاءه الرسميين لا يقدرون على التعاطي مع غير الفنانين إلا على أساس توهم شيء من خطابهم فيهم. شيء من الخطاب؟ أي مصادفة شخص ما، والتكلم معه، ثم، وبسرعة، الإعتقاد بأن ما يخبره هو موضوع فني، أو بأنه هو بذاته موضوع فني، يجب إبداؤه. أما إذا لم يكن "مثيراً للإهتمام"، أي لا يمكن تحويله إلى موضوع فني، أو بالأحرى لا ينطوي على رأسمال موضوعاتي يمكن استغلاله، فلا بد من اعتباره جاهلاً.

بهذه الطريقة، يجري إقفال عالم الفن، وكل العوالم التي كان عليها أن تستقبل هؤلاء الذين فلتوا من مجتمعاتهم الأهلية وقوانينها، وبهذه الطريقة، ينتكسون إليها. لا بأس، فلا مناص من التمسك بتلك العوالم، ومحاولة الإستدلال إلى أعطابها، ولو بنبرة عنيفة أحياناً، كي لا تتجه إلى الإقفال بالكامل، ومن ثم كي لا تتحول إلى جثة، كحالة العالم اليساري الذي استقبل عدداً كبيراً من بروليتاريتها ذات يوم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها