الثلاثاء 2018/01/02

آخر تحديث: 14:33 (بيروت)

موت اللامعنى

الثلاثاء 2018/01/02
موت اللامعنى
المحتفلون يخافون من اللامعنى، ولا يريدون الإصطدام به( إميـل نـولـدي)
increase حجم الخط decrease
يصعب على متعقب الجلبة التي دارت في شوارع بيروت للإحتفال بإنتهاء العام 2017 أن يغض الطرف عن تعاسة المنخرطين فيها. ومرد هذه التعاسة، ليس كونهم يدركون لامعنى العيد، بل إنهم لا يجدون سبيلهم إلى مزاولة لامعناه. وفقدانهم لهذا السبيل يرتبط بأنهم لا يجدون في رأس السنة وقتاً للواقعات، التي إما حدثت قبله، وبالتالي، يجري جردها بغاية الإعلان بأنها حصلت، أو ستحدث بعده، وبالتالي، يجري تقديرها، بهدف الإعلان بأنها قادمة. أما، الوقت بينهما، ففي أثنائه، يشعر المنخرطون فيه أن السابق قد فات، واللاحق قد لاح، والفوات يرادف الإنجاز، واللواح الإمكان. وبعبارة أخرى، يشعرون خلاله أن كل شيء عمدوا إليه قد بلغ تمامه، وها هي أشياء أخرى تظهر لهم، وتعدهم بأنهم سيحققونها أيضاً.

اللامعنى، الذي يوجهه النقض إلى العيد لكي يطيح بقيمته، هو مجال إكتمال المعنى السالف، والتجهز للذهاب إلى بناء معنى آت، وهو مجال لوداع الأول، والترحيب بالثاني. وفي النتيجة، هو مجال خالٍ سوى من طقوسه، التي تدور حول الترويح عن النفس، والاتصال بالحاضر، والإجتماع مع الأغيار، وتمتين الصلات بهم. ففي هذا المجال، ثمة مزاولة لأفعال لا تنعطف على كسب أو عائد منها، ولكن، كل ضرورتها في أنها على هذه الحال تحديداً. فمن الممكن القول إنها بلامعنى، ثم التغاضي عنها، إلا أن، عندها، تصير معاني الأفعال الأخرى، التي لا تندرج في خانة الطقوس، معدومة. فطمس اللامعنى هو الطريق إلى قتل كل معنى، تماماً، كطمس الفراغ الذي يودي إلى هبوط كل مملتئ.

حين يغدو جو العيد في بيروت تعيساً، فهذا يشير إلى أن المجال الخالي معطوب. إذ إن الواقعات السابقة لا تزالة جارية، والواقعات اللاحقة بعيدة المنال، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، المعنى الماضي لم ينجز، والمعنى القادم ضائع. وهكذا، بالكاد يحصل المجال الخالي ووقته على دوره، وبالكاد يوجد إلا في الدعايات وعلى التلفزيونات، التي تبديه مجالاً ووقتاً إستهلاكيين بامتياز. وفي هذا السياق، ولما ينخرط المحتفلون في العيد، فليس من أجل مزاولة اللامعنى، بل لدواع أخرى، خلاصتها هي سوقهم إلى مشهده، حيث قد يتجاورون، ويشربون، ويرقصون، ولكن، بلا أن تكون أفعالهم هذه طقوساً. ففي مشهد العيد، تنتابهم التعاسة لأنهم لا يشعرون بِخلاء المجال والوقت، بل بطفحهما، كما أنه لا ينطوي على لامعنى، بل على معنى ملزمين به، مفاده أن ينجحوا في امتحان الفرح.

التعاسة، هنا، لا تصدر عن كون العيد بلامعنى، بل عن موت لامعناه، وتحوله إلى مجال ووقت لترسيخ انعدام كل معنى، من خلال الإفراطين الإستهلاكي والمشهدي. كما أن التعاسة تصدر عن كون المنخرطين، ولما يحتلفون به، يكتشفون أنهم أخطأوا التقدير حيال المعنى السابق، الذي عمدوا إلى بنائه، واللاحق، الذي لا يزال مجهولاً، لكنهم، وعلى طول إحتفالهم، يجهدون في ستر اكتشافهم.

على أنه، وخلال الجلبة التعيسة، قد يعمد بعض المنخرطين إلى الإنصراف منها، والقول ألا شيء فيها، وبالتالي، وتمضية ليلة العيد كأي ليلة ثانية. هؤلاء هم ضحايا القضاء على اللامعنى، بحيث أنهم لا يقعون في مشهد العيد على ما يجرهم إليهم، لا يقعون على اللامعنى فيه، ولذلك، يفضلون إستكمال المعنى نفسه، الذي كانوا يشيدونه قبله. بيد أن هؤلاء قد يتأرجحون بين الإعتقاد أن العيد مناسبة لا طائل منها، أو تمضيته بانفراد، في الحالة الأولى، يسقطون في نقضه العدمي، وفي الثانية، قد يرتطمون بالخلاء، في مجاله ووقته، فيقتربون من اللامعنى، الذي يجتاحهم بجرعة فائقة، وإن حصل وتحملوها، يكون العيد قد وصل إلى تمامه. التعاسة في بيروت ليلة رأس السنة دليل على أن أغلب المحتفلين يخافون من اللامعنى، ولا يريدون الإصطدام به.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها