الجمعة 2018/01/19

آخر تحديث: 13:59 (بيروت)

مخاطرة تصور الأقباط

الجمعة 2018/01/19
مخاطرة تصور الأقباط
يطرح كل من "بحب السيما" و"غذاء للقبطي" معضلة متعددة الأوجه
increase حجم الخط decrease
كان عرض الفيلم فرصة، للقائنا جميعا، بعد أربعة أعوام من مغادرتنا الجامعة. ولم يفاجئنا بالطبع، أن القاعة كانت ممتلئة على آخرها بشباب وأسر قبطية، جاءوا لمشاهدة "بحب السيما"، فهو الفيلم المصري الأول على الأطلاق، الذي يتناول شخصيات قبطية حصراً، كموضوعه الرئيس بل والوحيد. كنت قد بدأت في الابتسام، عندما افتتح الفيلم بتنويه مكتوب، يشكر أحد القساوسة الإنجيليين، الذي كنت أعرفه بشكل شخصي، وكان مبرر تلك الابتسامة، أن زملائي الجالسين بجواري، وهم أرثوذكسيون، كغالبية الحاضرين في القاعة، ومعظم الأقباط، لم يكن يعني لهم اسم القس الإنجيلي، أو كنيسته شيئاً.


كان لابتسامتي أن تتسع، مع المشهد الأول، الذي يفتتح على اجتماع للصلاة في أحد البيوت، وهي عادة بروتستانتية بالأساس، فيما الجميع يشدو بترنيمة "سلمت قلبي في يديك" على أنغام الأوكورديون. كنت أحفظ الترنيمة عن ظهر قلب، واللحن كان مألوفاً، يشبه الكثير من الترانيم الإنجيلية بنصوصها العربية التي تبدو فصاحتها شامية أكثر منها مصرية، أما الأكورديون فكان الآلة المفضلة في كنائسنا البروتستانتية، والأكثر عملية، صوت قوي ومتنوع، وسهل النقل، ويمكن لعبها وقوفاً أو جلوساً، وبلا حاجة لتوصيلات كهربائية، أو غيرها. لكن سرعان ما أصابتني تلك الآلفة، ببعض من الضيق. فلما احتاج الأمر تسعة عقود، هو تاريخ السينما المصرية، منذ بدايتها، إلى عرض الفيلم في عام 2004، حتى تخرج تلك الأصوات الحميمة والمشاهد المألوفة، التي عشت طفولتي ومراهقتي بينها، إلى العلن؟ وكيف ظهر كل هذا عجائبيا جداً لزملائي الجالسين بجانبي، والذين وإن كانوا أقباطا لم يعرفوا الكثير عن كل تلك الطقوس، التي تنتمي لغير طائفتهم؟


لم يحتج الأمر أكثر من نصف ساعة، حتى بدأت صرخات من الاستنكار تعلو في القاعة، وتبعها مغادرة مجموعات من الحضور لها، التي وفي نصف الفيلم، قد أصبحت نصف مقاعدها خاليه. لم يحتمل زميلي، الجالس بجانبي المهانة التي وجدها في الفيلم، وخرج من القاعة من فرط الغضب، ووعد بانتظارنا في الخارج. كنت قد استمعت بالفيلم إلى اقصى حد، فهو كان أفضل جدا، مما توقعت، وبالأخص عرضه لتلك العلاقات المعقدة والمتشنجة داخل المجتمع القبطي بين طوائفه بعضها وبعض، والتي لا يتحدث عنها أحد، ولا يعرف بوجودها بالأساس أغلبنا. لكنني، ومع هذا، كنت قادرا على أن أتفهم كل هذا الغضب الذي عبر عنهم زملائي بعد خروجنا من السينما. فالمعضلة أن المشاهد الكوميدية في الفيلم، على برائتها، لم تكن سوى إعادة إنتاج وترسيخ غير متعمد، للتنميطات المشينة عن الأقباط، فاللقاء العاطفي المشفوع بالقبلات والذي تم في الكنيسة في أحد المشاهد، والمشاجرات واللكمات والركلات التي يتم تبادلها في اجتماع الصلاة في افتتاح الفيلم، ويختتم بها الفيلم أيضا، بمشاجرة كبيرة في الكنيسة، لا تبعد كثيرا عن الخيالات الشائعة عن الكنائس بوصفها أماكن دنسة يتبادل فيها الجميع القبلات، أو ينخرطون في علاقات جنسية ماجنة، أو في أفضل الأحوال لا تتعدى أن تكون سيركا، أو حلبة للمصارعة. بل وحتى الخيانة الزوجية التي يتناولها الفيلم، والتي تزخر بها الأعمال سينمائية الأخرى، بدت أكثر حساسية، في فيلم يقدم شخوصه، تحديدا، من الأقباط، فخيانات الأفلام الأخرى لن تستقبل بوصفها الخيانات الزوجية لـ"المسلمين"، على عكس ما يمكن فهمه من "بحب السيما"، من ترسيخ للمخيال الطائفي الذكوري، عن القبطيات، بوصفهم مكشوفات وشبقات، ويعجز رجالهن "الاقباط" منزوعي الذكورة عن إشباعهن بما يكفي.

لا يقتصر الأمر على الأفلام فقط، ففي مقال بعنوان "أقباط مصر: هل يعيشون في مستوطنات ويأكلون الفضلات"، نشر قبل شهرين، تقدم كارولين كامل، نقدا حادا وغاضبا، ومستحق في أغلبه، لكتاب شارل عقل "غذاء للقبطي". فالكتاب الذي لا يدعي الكثير من الجدية، في تقديمه وصفات المطبخ القبطي، من زاوية ذاتية ساخرة وغاضبة أحيانا كثيرة، ينهل من المعجم الخطابي الطائفي دون قصد، ويرسخ خيالاته. فحين تنفي كارولين في مقالتها أن الأقباط يعيشون في "مستوطنات"، أو أن طعامهم ليس "خرا" كما يقول كتاب عقل، فأنها تبدو وكأنها قد أخذت نص الكتاب بجدية أكثر من اللازم. لكن مع هذا، لا تخطيء في توجسها من الدلالات الخطابية للمفردات التي يستخدمها عقل لوصف "المستوطنات" و "المجتمعات الثانوية الطفيلية" للأقباط، التي تحيط بالكنائس. فلا يصعب تصور ترسيخها لتنميطات عن الأقباط، بوصفهم، جماعة اجتماعية استيطانية، أجنبية، ودخيلة، و"دولة داخل دولة"، وطفيلية، ومنفصلة، ومعزولة، وربما خطرا أيضا. أما التقزز من طعام الأقباط، وروائحهم، وبيوتهم، ومن نظافتهم الشخصية بشكل عام، والتي تعد واحد من أكثر محاور الكراهية الطائفية الموجهة ضدهم، فأن مبالغات عقل، الساخرة، في نقد "الطعام الصيامي"، بوصفه خراء، يمكن تلقيها كـتأكيد غير متعمد لها ولـ"سياسات القرف" الطائفية المرتبطة بها.

قبل يومين، نشر أحمد شافعي، عرضاً شديد الحساسية، للكتاب نفسه، يعود فيها لعلاقته العابرة بزميله القبطي "س. عبد الملاك"، وبنصائح زملائه له بأن لا يأكل من سندويتشاته، ويشرح عبر مدخل ذاتي، الطائفية بوصفها جهلا متعمدا بالآخر. يصل شافعي في النهاية إلى أنه وعبر كتاب عقل، استطاع أخيرا أن يسمع صوت "س. عبد الملاك". لكن ربما يكون شافعي مخطئاً، فربما زميله القبطي، وغيره من الأقباط، وفي الأغلب معظمهم، سيكونون في شدة الغضب من الكتاب، الذي لا يتهيب من نقد المجتمع القبطي وكنيسته ولاهوته الشعبي، بكل قسوة.

يطرح كل من "بحب السيما" و"غذاء للقبطي" معضلة متعددة الأوجه، فمن جانب نجد أنفسنا أمام ضحالة في المعالجات الفنية للموضوع القبطي، ترتبط بشكل جذري بالسياسات الطائفية للجهل المتعمد بالآخر وشيطنته. وبسبب تلك الضحالة ذاتها، يقع عبء ثقيل على تلك الأعمال القليلة التي تتناول الأقباط، رغما عن منتجيها وعلى الضد في معظم الأحيان من مقصدها، فتستقبل بوصفها ممثلا للأقباط، وصوتا لهم، أو نقدها بوصفها تشويها لحقيقتهم. تفتقد المعالجات الفنية للأقباط، بسبب قلتها، لتاريخ وتراكم، يسمح بإتاحة موارد جمالية، ومرادفات ونبرات خاصة بها، فتجد تلك الأعمال المتعلقة بهم نفسها مضطرة لأن تنهل من الموارد الخطابية القائمة والتي ترتكن غالبيتها إلى التنميط، وخاصة إذا كانت تحمل حسا كوميديا أو ساخرا، فالتنميط رافعة سهلة للفكاهة في الأغلب. وحتى حين لا يحدث ذلك، فإن بنى نمطية جاهزة وشديدة الرسوخ في الوعي اليومي، بخصوص الأقباط وضدهم، تهيمن على عملية القراءة والتلقي للعمل نفسه، على الرغم منه.

ربما تضيف تلك المعضلات، ألقا إضافيا لتلك المحاولات شديدة الندرة، لتصور الأقباط، وكسر حواجز الجهل المتبادلة، بين الأقباط والمسلمين، بل وبين الأقباط أنفسهم، بكشفها عن الجراءة اللازمة لخوضها، وحساسية موضوعاتها. وتكشف أيضا عن أن التعقيدات المتعلقة بتلقي أعمال مثل "باحب السيما" و"غذاء للقبطي"، لا تعود للعمل نفسه وفحواه، بقدر ما تعود لندرته، ندرة يبدو أن كسرها هو السبيل الوحيد، لإتاحة صور وخبرات وأصوات عديدة، مختلفة ومتناقضة ومتراكبة عن الأقباط، ومجتمعاتهم، وطبقاتهم، وطوائفهم، وبالأولى عنهم كأفراد، وكموضوعات يمكن فهمهما والاعتراف بوجودها. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها