الجمعة 2017/09/08

آخر تحديث: 11:30 (بيروت)

إد فان در إلسكين: الحياة الصاخبة

الجمعة 2017/09/08
increase حجم الخط decrease
تشهد باريس حالياً، وللمرّة الأولى، المعرض الأضخم لأعمال المصوّر إد فان در إلسكين (1925- 1990) Ed Van Der Elsken، عنوانه "الحياة الصاخبة". إلى الفوتوغرافيا، مارس هذا الهولندي وسائط فنية متعددة منها الكتابة والسينما، كما حقق بعض مواضيعه الفوتوغرافية بالألوان بواسطة الشرائح (Slides). أشهر هذه المواضيع "العين تعشقك" و"سيمفونية طوكيو". كما وجدت في محفوظاته أيضاً رسومات سريعة ومجسمات ورسائل ومدونات أضاءت على شخصه وأسلوبه.


في باريس إكتمل أسلوبه، جذبته مشاهدها المدينية: فنانو الشوارع، المشردون، المتسولون، عشاق ضفاف نهر السين، التظاهرات والملصقات. لقاؤه بشبان في أحد علب الليل بدّل عميقاً في مقارباته. التقط بإحساس الأشكال وأحجامها. صوّر أماكن البوهيميين، عناق العشاق، العزلة، تعاطي الكحول والمخدرات... مواضيع صدرت نهاية السبعينيات في كتاب ضم صوره الباريسية في الخمسينيات، مع صور أخرى ونصوص سردت بداياته المتعثرة، عمله في مختبر وكالة "ماغنوم"، زواجه، علاقاته بالفنانين، والخطوات الفنية التي رافقت ولادة كتابه الأول "قصة حب في سان جيرمان دي بريه"-1956.  فضّل الكتاب وسيطاً لنشر صوره فتجاوزت كتبه العشرين.



اعتبر "قصة حب..." سيرة ذاتية ومتخيلة، وبداية قطيعة مع الفوتوغرافيا الإنسانية التي راجت ما بعد الحرب العالمية الثانية. بموضوعية وبتعاطف، تناول مواضيع جديدة: الشبيبة، العنف. جرأة تصاميم كتبه أبدعت نهجاً مجدداً سباقاً. اتخذ سرده المرئي شكل عودة بالزمن إلى الوراء وتذكّر الماضي. للكتاب طابع سينمائي. ألألوان الغامقة والتعبيرية السينمائية، كانت وراء رواج أعماله.  

في أفريقيا الوسطى، بين 1957 و1958، لم يعد ذلك المصور الشريد إنما تحول إلى عالم أنتروبولوجي باحث عن الثقافات "الأصيلة"، يوثّق بحماس الحياة اليومية في الأدغال النائية.  طلب من الأولاد أن يرسموا له شخصيات أساطيرهم وشعائرهم المحرمة على الغرباء.  "باغارا"، أي الجاموس، كتابه الذي ضم صوره الأفريقية، اختار عنوانه مرادفاً لقوة الحياة الأفريقية المتوحشة وحيلها. اختصر الكتاب نظرته إلى القارة الحقيقية، فغيّب البيض وسياراتهم الحديثة عن صوره.

في أسفاره حول العالم التي موّلها من أفلامه التلفزيونية، ترسّخ أسلوبه الفني. أمضى 3 أشهر في اليابان، ثم المكسيك والولايات المتحدة. بينما ارتكزت أعماله التلفزيونية على حبه للمغامرة وميله الفطري إلى التكوينات الشكلانية، انحازت أعماله الفوتوغرافية إلى الوضع الإنساني.  بعد عودته إلى هولندا من أسفاره الطويلة، لم يتمكن من نشر كتابه "رغد العيش" إلاّ في 1966 بعد جهد. كتاب ترددت في صفحاته أصداء المغامرات والحس الإنساني وعشق الثقافات الغريبة.


في أمستردام، اختار تصوير الشارع. هناك توضّحت نظرته تجاه الشباب المنتفض والشخصيات غير الإستثنائية التي صورها، خصوصاً معارفه منذ الخمسينيات، وفي حيه تحديداً: المهمشون، عاملة البار، الأختين التوأمين، المراهقات الحالمات، الأولاد في أزياء تنكرية. برع في التقاط عفوية الناس وتفاعلهم مع موسيقى الجاز ذات الشعبية الكبيرة آنذاك.  في كتابه "جاز" - 1959، ترجم الموسيقى إلى صور كانت لها إيقاعاتها على صفحات الكتاب. صور أفقية مرادفة لنوطات الآلات النحاسية، أما العمودية منها فتذكّر بنوطات البيانو، مثلما أراد. توالت صور "جاز" كإيقاعات متسارعة تمزج مكونات متنوعة، مشكلة سمفونية واحدة.

بحلول السبعينيات بدأ اللون يحتل حيزاً واسعاً لديه من دون تبدّل في النهج. تعلّق بالسينما منذ 1959، لكنه لم يهجر الصورة الثابتة. جعل من كاميرته السينمائية الشخصية الرئيسية. حقق أشرطة تجريبية قصيرة وصفت بالذكية، من مواضيعها: مهارة اليدين العجيبة ("أيدي"- 1960)، التصرفات المضحكة لزوار المتاحف ("ديلابي"- 1962)، الفقر الرهيب في أمستردام ("فقر"- 1965)، حياته العائلية ("أهلاً بك في الحياة يا صغيري العزيز")، أطفال أمستردام ("صغاري الأعزاء"). عمله الوثائقي المؤثّر والمعبّر عن موقفه النقدي تناول فيه هدم الحي اليهودي بعد الحرب العالمية الثانية. في 1982 حقق فيلمه "فوتوغرافي يصوّر أمستردام بأفلام سينمائية"، بورتريه مدينة تجول مطولاً في أرجائها، يبحث عن شخصيات تعنيه: بانك، مشردين، نساء، موسيقيين جوالين... استفزهم ليلتقط ردود أفعالهم التلقائية.

منذ رحلته الأولى إلى اليابان في الخمسينيات اكتشف العصابات اليابانية التي يشبه لباسها أزياء أفلام العصابات الأميركية في الأربعينيات. أعجب باليابانيين وبثقافتهم وتقاليدهم -مصارعي السومو، الشعائر الدينية، الزحمة في محطات النقل... لم يكتف بتصوير السلوك المحافظ اللائق، بل بحث أيضاً عن ثقافة الإستهلاك والشباب الثائر والأرياف.

فان در إلسكين وجه فريد في الفوتوغرافيا والسينما الوثائقية الهولندية، عكست أعماله، الفوتوغرافية والسينمائية، بتجريبيتها وتعبيريتها وإلتزامها، مناخات الحقب الأربعة التالية للحرب العالمية الثانية. حرص على إرتباطه الإنساني بالذين يصورهم. كمصور شوارع، جال في مدن العالم  باحثاً عمن أسماهم "ناسه، أو الأشخاص الحقيقيين المتواجدين دوماً على هامش المجتمعات" قال. صوره المعاصرة وميزتها السينمائية تتفق مع نموذج الحياة اللاتقليدية لشخصياته الذين شاركهم في يومياتهم. بحث عن حقيقة فنية غير مصطنعة، وعن شكل جمالي منفتح على الرغبات. في صوره الحيوية عنف، ومزج بين الواقع والمتخيّل مستعار من الصورة المتحركة.

أفلامه أقرب إلى "الموجة الجديدة" الفرنسية، ونهجه مستمد من "سينما الحقيقة". ربط شخصياته بحياته، كما في أعماله الأولى والأخيرة التي سرد فيها طفولته ومرضه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها