الخميس 2017/09/07

آخر تحديث: 08:04 (بيروت)

ديموقراطية العقم

الخميس 2017/09/07
ديموقراطية العقم
يستعد لبنان لتشييع شهداء الجيش اللبناني الذين قتلهم "دواعش الباصات" (غيتي)
increase حجم الخط decrease
ثمة معنى إضافي لبيان "حزب الله" الذي يدافع فيه عن مقاتلي "داعش" المتوجهين في باصاته – آمنين مع عائلاتهم – إلى دير الزور، في وجه غارات طائرات التحالف ضد الإرهاب. فقد أثبت البيان، والنقاش الحاد الدائر حوله، تمتع لبنان بمستوى لا يستهان به من حرية التعبير. وهي "النعمة" التي يحسدنا عليها الكثير من الأشقاء العرب، والتي، في الوقت نفسه، يجب أن تُحزن اللبنانيين على وطنهم وأحوال عيشهم.

نعم، يمكن لمطلق شخص، سياسياً كان أو إعلامياً أو مستخدماً عادياً لوسائل التواصل الاجتماعي، أن يكتب ويقول ما يشاء في أداء القوة الأقوى في لبنان الدولة والعسكر والشارع. أن يمجّد التزام الحزب بـ"الأخلاقيات الإسلامية والدولية" الراعية لمصير المدنيين في الصراعات إثر اعتراف مفاجئ للحزب بشيء اسمه "المجتمع الدولي"، أو يُعلي صوتاً شاجباً للتناقض الفاقع الذي لم يتحرّج "حزب الله" من تدبيجه بوقاحة، متناسياً حصار مليشياته للمدنيين السوريين في مضايا والزبداني وتجويعهم إلى حدّ الاقتيات بأكل القطط وأوراق الشجر، قبل موتهم المحقق.

يمكن لمواطن فذّ أن ينجو بتغريدة مذهلة، مفادها أن الباصات التي نقلت مقاتلي "داعش" إلى دير الزور لم تكن سوى خدعة حرب، وأن الباصات ملأى بمقاتلي "حزب الله" (على طريقة حصان طروادة) لتحرير أراضٍ يسيطر عليها التكفيريون. كما في وسع أيٍّ كان، استنكار الصلف المدهش الذي أغفل به "حزب الله" واقعة حصاره ودكّه لحمص والقصير، حيث لم يفرق بين مدني ومقاتل، بل حمّل مقاتلي المعارضة آنذاك مسؤولية التترس بالمدنيين، كما حمّل المدنيين مسؤولية موتهم كعاقبة "طبيعية" لما اعتُبر "حماية للمسلحين".

وبالتزامن، لا تخشى وسائل إعلام تداول تسريبات تفسّر بيان الحزب بسعيه إلى حماية أسير له وأسرى من الحرس الثوري الإيراني ما زالوا في قبضة "داعش"، إضافة إلى التزامه بمخطط إيراني يرمي إلى زرع مقاتلي "داعش" في دير الزور ومناطق قريبة من الحدود السورية – العراقية لوضعهم في مواجهة المقاتلين الأكراد ومكافحة التوسع الكردي في شمال سوريا. وذلك، في حين تستعد البلاد، بإعلامها ورسمييها وقواها المدنية، لمراسم إخراج جثامين العسكريين الشهداء من المستشفى العسكري، الجمعة، وتشييعهم وتكريمهم. العسكريون الذين قتلهم "دواعش الباصات".

قد يحصل، من وقت إلى آخر، أن يُستدعى مواطن إلى التحقيق بسبب منشور له في شبكة اجتماعية، يتهجّم على "حزب الله" أو قيادي من حلفائه، كما حصل مؤخراً مع الزميل فداء عيتاني، والأسير المحرر من المعتقل الإسرائيلي أحمد اسماعيل، وغيرهما. لكن الأمر غالباً ما ينتهي كما بدأ، لتبقى مثل هذه الاستدعاءات أشبه بنعرات أعقاب البنادق في جسد الاجتماع اللبناني، للتذكير بأن لكل شيء سقفاً، وأن للمهيمن صبراً قد ينفد.

لطالما صبّر اللبنانيون أنفسهم على بلاءاتهم بأنهم ما زالوا يتمتعون بهذا الحد الأدنى مما يسمّى بالديموقراطية، مهما كانت مشوّهة وهجينة، وبأن الأطراف اللبنانية كافة، مهما بلغت من جبروت أو انسحاق، مجبرة على التقيّد بشروط النظام الطائفي ومحاصصاته، وبالتالي فلا غلبة كاملة لطرف، ولا فناء نهائياً لآخر.

وإذا كانت المعادلة هذه على شيء من الصحّة، مثلها مثل الحرية النسبية التي يحسدنا عليها جيران كثر، فإنها تنطوي أيضاً على فخ. إذ لا مفرّ من تحوّل ديموقراطية التوازنات إلى آلية تنفيس، تدرأ أخطار الاحتقان، ولو إلى حين، لكنها في الوقت نفسه لا تنتج حلولاً ولا تفتح مخارج للأزمات، ولا تؤثّر في جمهور هذا الطرف أو ذاك إلا في ما ندر، لينحصر الخطاب/الخطاب المضاد في حلقات الذِّكر التي يحييها الأنصار، كل على ضفته. ديموقراطية، ليس للسياسة الأصيلة فيها أي أفق، ولا حتى للعمل العسكري الحائز على غطاء سياسي طوعي أو قسري من الفسيفساء اللبنانية بأكملها، ولا ما يتمخض عن نتائج سوى ما يفرضه المهيمن في دوائر القرار المحيّدة عن المؤسسات ودينامياتها. ديموقراطية تكاد تكون مسوّاة بالأرض، لا ترتفع عنها إلا بالقدر الذي يسمح به الأمر الواقع، ولا تفيض زوابعها عن فناجين التراشق الكلامي، أو ساحات الاعتصام في أحسن الأحوال. ديموقراطية العقم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها