الجمعة 2017/09/29

آخر تحديث: 11:50 (بيروت)

ما قول "الاستشراق" في الأكراد؟

الجمعة 2017/09/29
ما قول "الاستشراق" في الأكراد؟
شكّك في مسؤولية النظام العراقي عن مذبحة حلبجة.. فلاقى انتقاداً كردياً عنيفاً
increase حجم الخط decrease
تزامنت أخبار الاستفتاء على الاستقلال الكردي في 25 أيلول الجاري، مع الذكري الـ14 لرحيل إدوارد سعيد. ربما تدفعنا تلك المصادفة، التي لا تنتسب إلى حنكة التاريخ بأي صورة، إلى التساؤل عما كان لسعيد أن يقوله في الاستقلال الكردي، لا بدافع الرياضة الذهنية، أو واجب الوفاء لذكراه فقط، بل لاختبار تراث سعيد الفكري، ومساهماته النقدية التي كان لها أن تغير طريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا، ومدى مناسبتها للتطبيق اليوم.

في كتابه "تغطية الإسلام"، يذهب سعيد في إشارته للتاريخ القريب للعالم الإسلامي الحديث و"نضاله في سبيل تخطي التقسيمات العرقية الدينية وصولاً إلى نوع من الديموقراطية العلمانية" إلى أن "إسرائيل والطائفة المارونية التي تنتمي إلى أقصى اليمين في لبنان قامتا بحملة مستعرة في سبيل العودة إلي هيكل للدولة، يقوم أساساً على تمتع الأقلية العرقية بالحكم الذاتي وترتبط بروابط ثنائية مع قوى راعية أجنبية أو قوى عظمى". ولو سلمنا بصحة جدلية سعيد المقتضبة، والتي لم يبذل الكثير من الجهد في شرحها، ربما لبداهتها الظاهرية، فليس من الصعب تخيل وضع طموحات الأكراد، جنباً إلى جنب، مع إسرائيل والموارنة، بالمنطق نفسه. ومع أن التأييد الإسرائيلي للاستفتاء الكردي، مع الصور القليلة لأعلام نجمة داود المرفوعة مع الأعلام الكردية في احتفالات الأكراد، دافع إلى ترسيخ تلك العلاقة في الأذهان، فإن ما ذهب إليه سعيد يحتاج إلى بعض الفحص.

فغير أن سعيد يقر، في الفقرة نفسها، بأنه "لم تنجح أي دولة من دول المنطقة في تحقيق ذلك (أي تخطي التقسيمات وإقامه ديموقراطية علمانية)، إلا في دنيا السياسات المعلنة وغير المطبقة في العادة"، وكذا عدم توضيحه متى كان هيكل دولة الأقلية العرقية متحققاً في السابق تاريخياً حتى يمكن "العودة" إليه، فهو يسقط في فخ الممارسات التعميمية ذاتها التي ينتقدها في كتابه والمتعلقة بالتصورات الغربية عن "الإسلام". فحين يصور "الطائفة المارونية"، كفاعل متجانس، مؤسس على الديني، متجاهلاً الفوارق بين المارونية السياسية والمارونية كانتماء ديني أو عرقي أو اجتماعي، وانقسامات القوى المارونية السياسية والمجتمعية وطبقة الإكليروس، وتاريخ صراعاتها بعضها مع بعض، وتحالفاتها دائمة التغير مع غيرها من القوى اللبنانية وغير اللبنانية، منذ تأسيس الدولة مروراً بالحرب الأهلية وما بعدها، فإن سعيد لا يدع لنا مبرراً لعدم وضع مقولاته عن "الطائفة المارونية" في الخانة نفسها مع التنميطات الاستشراقية المختزلة عن "الإسلام".

لكن، وإن كان المقطع الذي نستشهد به لا يأتي على ذكر الأكراد مباشرة، ويبدو في اقتضابه غير كاف لتقرير موقف سعيد من معاناتهم وطموحاتهم، فإن إشارات أكثر مباشرة لها أن تكشف عما هو أبعد من مجرد موقف سعيد من قضيتهم. ففي مقال في "لندن رفيو أوف بوكس" العام 1991، تعليقاً على الجرائم الأميركية، في "عاصفة الصحراء"، ينتقد سعيد التأطير الغربي الانتهازي لنظام صدام حسين، والذي لطالما دعمته الولايات المتحدة الأميركية في السابق، بوصفه نظاماً ديكتاتورياً وحشياً، مشككاً في مسؤولية النظام العراقي عن مذبحة "حلبجة" الكيماوية، مدعياً أنه ربما يكون النظام الإيراني هو من نفذها. ومع أن تلك المقالة كانت سبباً في انتقاد كردي عنيف لموقف سعيد، فهو عاد مرة أخرى، بعد ثماني سنوات، إلى إشارة أكثر تعاطفاً مع قضيتهم لكنها لا تقل إشكالية عن سابقتها. ففي محاضرة مشتركة مع نعوم تشومسكي، العام 1999، متعلقة بحرب الناتو على صربيا، ومع إقراره بالجرائم التي ارتكبها النظام الصربي في كوسوفو، يشير سعيد إلى الرياء الأميركي، الذي لا يصعب تبينه في تغاضي الولايات المتحدة عن مذابح الحرب الشرسة والطويلة التي تشنها تركيا ضد الأكراد.

وبالرغم من أن نقد سعيد للتدخل الانتقائي للولايات المتحدة في مناطق الصراعات، يحمل منطقاً متماسكاً، فإن موقفه هو من المذابح ضد الأكراد لا يقل انتقائية، إذ هو يبدو مؤسساً على موقف الولايات المتحدة منها، وعلاقة النظام المعتدي بالغرب. ففي حالة حلبجة، تصبح المذبحة محلاً للشك على خلفية الحرب الأميركية على العراق. بينما تبدو مجازر الأكراد في تركيا، وهي العضو في حلف الناتو والحليف التاريخي للولايات المتحدة، مؤكدة، ومعززة بالإحصاءات الدقيقة لأعداد الضحايا أيضاً. لكن موقف سعيد المتذبذب من المسألة الكردية، وغيرها من القضايا التي تعرض لها، لا ينبغي أن يدفعنا إلى وصمها بالانتهازية السياسية، المؤسسة على هوس بنقد الغرب، فالأمر يتعلق بتعقيد موقع المثقف ودوره وتحولاته كما طرحه هو نفسه.

وإن كان فواز طرابلسي قد رصد ثلاث لحظات تاريخية في إنتاج سعيد الأكاديمي، كل منها يؤرخ لتحولات في موقعه الأبستمولوجي، فإن دور المثقف الذي يراه سعيد، أي "قول الحقيقة للسلطة"، يكشف عن أن الأمر أكثر تعقيداً من مجرد مراحل خطية ومرحلية لتطور أفكار سعيد. فأي سلطة تلك التي كان سعيد معنياً بمواجهتها، وأي حقيقة تلك التي أراد قولها؟ يؤكد سعيد في "تعقيبات على الاستشراق"، أن الحقيقة عصية، إلا أن تفسيرها الممكن يعتمد على شخص مفسرها ولمن يتوجه له بالخطاب، والغرض واللحظة التاريخية. يدفعنا هذا للتساؤل عمن هو سعيد، ولمن كان يتوجه بخطابه، والغرض منه.

يمكننا فهم ما يقوله سعيد عن نفسه: "اعتقد أني شعبان.. واشعر أن لا مقام لي في إي ثقافة". أو عندما يتحدث ضمناً بصوت لورنس العرب مرة، في "أعمدة الحكمة السبعة": "الإنسان هو حرب أهلية"، وبصوت خصمه نايبول الذي يكتب عنه بألم وإعجاب في الوقت نفسه: "أن تكون لا هنا ولا هناك، وإنما في ما بين الاثنين". وحين يكتب عن موقعه بوصفه "ذلك الفرد الذي عبر الانقسام الإمبريالي الغربي -الشرقي، ودخل حياة الغرب، واحتفظ ببعض الروابط العضوية مع البقعة التي تحدر منها أصلاً". يخبرنا سعيد بوضوح عن موقعه مؤطراً في الغرب، عندما يشير إلى نفسه كأميركي في كتابه "تعقيب على الاستشراق"، حين يقول: "على عاتقنا، كمثقفين ومواطنين في الولايات المتحدة ..."، ومرات عدة في "تغطية الإسلام"، يقول نحن (الأميركيين) في مقابل هم (المسلمين)، أو في تأكيده على أن عمله المؤسِّس -"الاستشراق"- قد أسيء فهمه وتوظيفه من قبل القوميين العرب والأصوليين الإسلاميين، لأن "عملي يعد بحق، أوروبي التمركز في نصوصه"...

هكذا كان انتماء سعيد الفلسطيني، الذي لا شك في أصالته، ونضاله الطويل سياسياً وأكاديمياً في سبيل القضية الفلسطينية، جنباً إلى جنب مع حربه الأهلية الداخلية، وحيرته بشأن لا انتمائه الثقافي، بين العبور من وإلى، وسقوطه في هامش المابَين، لا يجب أن تطغي على حقيقة أن إنتاج سعيد الفكري، قد انطلق من موقعه كمثقف ومواطن أميركي، ومتخصص في الأدب الإنكليزي، من داخل الأكاديمية الأميركية، لا بغرض "الدفاع أو حتى مناقشة الشرق والإسلام"، بل كان معنياً بالغرب نفسه كما يقول: "حسناً، الغرب شيء مؤقت، فلنحاول تفكيكيه، ولقد قمت بذلك على الدوام".

لا يعنى هذا أن سعيد لا يملك ما يقوله لنا عن الشرق، فهو في الأساس لا يثق في تلك التقسيمة بين شرق وغرب، ويرى في الثقافات على تنوعها هجيناً يفتقد للجوهر، يقع فيه "الشرق كنصف الغرب الصامت، والذي يحتاج أن يصبح له صوت"، وهو ما يستدعي "الشروع في إنطاق تاريخ الخسارة والفقدان، الذي ينبغي أن نبوح به ونحرره دقيقة بدقيقة وكلمة بكلمة وإنشاً بإنش". ومع كل ما يمكن لإنتاج سعيد أن يخبرنا به عن أنفسنا، فإنه يظهر تواضعاً جمّاً في ما يمكن أن يقوله هو نفسه، "لا أمتلك القدرة على إظهار الماهية الحقيقية لكل من الشرق أو الإسلام"، وبل حتى عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية. ففي سياق دعوته لشحذ جهود المثقفين العرب في الداخل والغرب، يؤكد أن دوره المحصور في الولايات المتحدة يظل محدوداً بسبب موقعه: "لا أستطيع أن اتحدت عن الضفة لأني لست مقيماً هناك".

هكذا، فكما تواضَع سعيد في مقاربته للشرق وأنظمته السياسية وقضاياه، مع وعيه العميق بموقعه في الغرب وأمام السلطة التي يقول الحقيقة في وجهها هناك، فهو أيضاً يطرح "الحاجة لتقويم الذات، الهدف هو النقد من الداخل وليس من الخارج"، أمام مثقفي الهامش في استلهامهم لإنتاجه الفكري. ويقول إن هناك "حاجة إلى حس أكثر حدة بدور المثقف في تعريف سياق بعينه وتبديله، إذ من دون ذلك، أرى أن نقد الاستشراق سيكون ببساطة تسلية سريعة الزوال"، فالاستعانة بأطروحة "الاستشراق"، خارج سياق إنتاجها، غير ممكنة من دون حساسية شديدة تجاه سياق تطبيقها المغاير وتفهمه.

في النهاية، ومع أن موقف سعيد من قضية الأكراد يبدو متذبذباً، وبل ربما مشينا أيضاً في بعض أوجهه، وكذلك وبالرغم من أن إنتاجه الفكري في أحيان كثيرة أسيء فهمه وتوظيفه لصالح جوهرانية قومية ومحلية أو أصوليات إسلامية، وحتى في دعم أنظمة "الممانعة" في وجه شعوبها بدافع من هوس بكراهية الغرب، فإن قراءة لتراث سعيد الفكري، أكثر فهماً لموقعه هو شخصياً وسياق إنتاجه، ومخلصة لضرورة تقويم الذات من الداخل، تظل قادرة على فتح إمكانات نقدية هائلة لفحص قضايانا اليوم، ولمدى أبعد من مجرد نقد الغرب. بل ويمكن الزعم بأن ما يخبرنا به سعيد عن الشأن الكردي، لا يبدو متعلقاً بما قاله هو نفسه عن الأمر، بل بما يمكن استقراؤه في أعمال لاحقة، مثل دراسة "ويلات زيدان ليوغلو" البديعة، "عبء الرجل الأبيض التركي"، والتي استلهمت سعيد وكتابه الاستشراق، لفحص الكمالية وأكراد تركيا وآليات قمعهم.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها