الخميس 2017/09/21

آخر تحديث: 07:23 (بيروت)

خلعت حجابها، فمزَّقت راية وهدَمت جسراً

الخميس 2017/09/21
خلعت حجابها، فمزَّقت راية وهدَمت جسراً
increase حجم الخط decrease
كان كل ما فعلته الصديقة أنها غيّرت "صورة البروفايل" لحسابها في فايسبوك، لتنال أكثر من 670 "تفاعُل"، 44 منها وجوه حزينة.
صُورتها الجديدة بلا حجاب. 

قد لا ينتبه الرائي، للوهلة الأولى، إلى غياب غطاء الرأس. إذ بدا شعرها، المضموم كله إلى الخلف، خارج الكادر العلوي، لا يظهر منه سوى المنبت عند الصدغين. فهل تعمّدت هي "قص شعرها" من الصورة، تخفيفاً لصِدام توقعته؟ أم أنه فِعل مَن التقط لها الصورة؟ وهل حدث ذلك بالصدفة؟ أم عن سابق تصميم؟ قلّة من لفيف الصديقة ستعرف الإجابات لهذه الأسئلة. لكن رقبتها الظاهرة في الصورة، والمزيّنة بسلسلتين فضيتين فوق بلوزة مخرّمة ذات قبّة "V"، تؤكد خلع الحجاب، وأن الصورة الجديدة هي إعلان، إشهار قرار.

ربما لا داعي لاستحضار أجواء التعليقات، تحت الصورة، والتي ناهزت الـ420، إذ يمكن التكهن مسبقاً بأنواعها: التهاني بموازاة العتب، الصدمة مع الاحتفاء، التحسّر مع الدعاء بأن يهدينا الله جميعاً، واستحضار النقاش الفقهي في ما إذا كان الحجاب فرضاً في الإسلام، في مقابل تقبّل الحدث باعتباره قراراً شخصياً "بينها وبين ربها". لكن الأرجح أنه لا موضوع أقل "شخصية" من الحجاب، خلعاً وارتداءً.

المسألة لا تتعلق بالأهل والعائلة الممتدة، فحسب، ولا تقف عند الأصدقاء والمحيط الاجتماعي والحيّ أو حتى الطائفة. بل تندرج في خانة أكثر حميمية وعمومية في آن واحد، هي التصوّر عن الذات، الفردية والجماعية، مُمثلةً في تلك التي ترتدي الحجاب، وأكثر منها تلك التي تقرر خلعه.

قيل كلام كثير عن الإسلام، مرمّزاً بالحجاب. الحجاب كبيان، كبطاقة تعريف. ولعل النقاش استعر، أكثر ما استعر، في الغرب، حيث البيئات المسلمة من المهاجرين، شاءت أم أبت، "معتدلة" كانت أو عصرية أو غير ذلك، باتت في مواجهة المنظومة التي قامت عليها دول مثل فرنسا والولايات المتحدة وألمانيا وهولندا وغيرها. وبغض النظر عن الجدل حول مَن المسؤول عن المواجهة هذه، ومآلاتها، وفي ظل الحرب الكونية التي نعيش، وتفجّر الإرهاب والخوف، ومعه رُهاب الآخر وسياسات الهوية، باتت المرأة وجسدها محطّ تجاذب، والحجاب راية، تجهد كتلة بشرية لرفعها باعتبارها قضية وجود، وتعتبر كتلة أخرى أنه لا شيء أهم الآن من كسرها وإلا اختفت إنجازات عقود في مجالات التحرر والمواطنة والمساواة.

لكن ماذا عن النقاش الداخلي للحجاب، والذي أصبح "موضوعاً" مشرقياً منذ عقود قليلة فقط؟ هنا في لبنان مثلاً، حيث لا يشكل الحجاب حدثاً ولا هو بجديد، لا يُحتفى به بالضرورة، ولا يُنظر إليه شزراً بالضرورة؟ حيث المحجبة ليست مهاجرة أو لاجئة، بل ابنة المكان وزمنه، والمكان يضمّ "قومها" و"أقواماً" أخرى، تشاركها الهوية "الوطنية"، دون الطائفية، وأحياناً دون الثقافية والسياسية أيضاً؟

لعل الإجابة تبدأ من آثار "الثورة الإسلامية الإيرانية"، في الطائفتين السنية والشيعية سواء بسواء، وظهور "حزب الله" في لبنان، ثم انتشار دروس الدين و"الآنسات" لدى مختلف الطوائف المسلمة، ولا تنتهي بالدعاة التلفزيونيين المِصريين والسعوديين والعراقيين الذين جمعوا حولهم جمهوراً عربياً ولبنانياً، منذ الثمانينات إلى اليوم، لا سيما في صفوف الطبقة الوسطى. ثم تبلوُر الفكر السلفي والجهادي وإيجاده بيئات حاضنة له اجتماعياً ودينياً وعسكرياً، في لبنان وسوريا والعراق بشكل خاص، حيث للقامع طائفة، وللمقموع أيضاً، للنخب الحاكمة والمتمولة طائفة، وكذلك للسلاح خارج الدولة ولقطّاعي الرؤوس وضباط التعذيب في السجون ومنفّذي التهجير الذي بلغ حدّ الترانسفير.. لكل من هذه الظواهر طائفة، منتمية أو شاجبة أو مؤدلَجة بمظلوميتها. وربما تكتمل اللوحة بتعقيدات العصر وأزماته، وإشكاليات القلق والسعادة والاكتئاب والعدل، الانتماء/الاختلاف، والمكافأة/القصاص، والتي يفاقمها الافتقار إلى دولة ناجزة وكافة أشكال الاستقرار، وتعمّقها معضلات "من أنا؟"، "أين حقّي"، "ما دوري؟"، و"هل لي أن أغيّر ما أنا فيه؟"... ومعروف أنه يسهل على الدين، أكثر من سواه، الانبراء إلى تلقف كل العُقد هذه وحلّها، أو على الأقل تسكين آلامها.

الأرجح أن الإسلام ليس وحده المعنيّ بكل ما سبق. فللمسيحية حصتها من الهوياتية الساعية إلى التمايز و"تحصيل الحقوق" و"رفع الضيم"، خصوصاً مع اقترانها بخصائص الأقليات التي تتمظهر يومياً في الحيز العام المشرقي. لكن تأثر المسيحية ههنا بمسارات الديموقراطية الغربية وثقافاتها، ربما يفرض شكلاً آخر من التفكيك لا مكان له بين هذه السطور. إضافة إلى الهيمنة التي يتمتع بها الإسلام في المنطقة، ليس عددياً فحسب، بل أيضاً كخطاب يصنع ناسه ومناوئيه في وقت واحد. فيبدو عصب الخطاب المسيحي، في لبنان مثلاً، أقرب إلى رد الفعل أو، كما هي الحال الآن، الاستقواء بمفعول رجعي.. وغالباً بالتحالف مع أحد قطبي الصراع السنّي – الشيعي.

أزعم أني واكبتُ، بدرجات متفاوتة من القُرب، حالات نزع حجاب عديدة، إضافة إلى معرفتي براغبات في نزعه لكنهن يتهيّبن الخطوة. القاسم المشترك بينهن جميعاً هو ما يواجهنه من ملامة قد تبلغ التقريع والتحقير والمعاداة. فمَن كانت محجّبة، وخلعت غطاءها، تبدو "جريمتها" أفظع ممن لم "يهدِها الله" حتى الآن و"يقوّي شخصيتها" في وجه مغريات زمننا. فهذه الأخيرة، لم تُحسب على الجماعة بعد، ليس بالكامل، وبالتالي فإن سفورها لا يُعرِّف القبيلة. أما خالعة الحجاب، فهي التي أصبحت الراية ونكّستها، هي التي تجعل التشكيك في الرمز أكثر معقولية لأنها كانته ثم رَمته، وهي التي يُخشى أن يصبح تمردها هو الرمز.

يبقى أن بين التعليقات التي كُتبت تحت صورة الصديقة السافرة حديثاً، أكثر من تعليق لفتيات ونساء، وبعدما استغفرن ربهن وعتِبن، أبدين حسرة بدت بالعمق نفسه للاستنكار الديني، لكنها تتعلق.. بالأناقة. والحق يقال، إن صديقتنا، قبل الحجاب، وبعد الحجاب الذي تلى تخرجنا من الجامعة الأميركية، كانت تتبع الموضة وتطبقها بذَوق رفيع، يعينها انتماؤها إلى طبقة اجتماعية معتادة على ارتداء "الماركات"، وهي لطالما تمتعت بـ"ستايل" خاص بها كان يدوّخ معظم زملائنا في الكلية. عرفتُها بشعر طويل تتناثر خصلاته المجعدة بجنون حول وجهها دقيق الملامح، ويتوج قوامها التي كانت شديدة الرشاقة والتناسق ولا تزال. والحال إن العاتبات الحانقات، حزينات لأنها كانت قدوتهن في الحجاب الأنيق والعصري المراعي لآخر صيحات دور الأزياء. كأن صديقتنا، بالنسبة إلى تلك المتحسرات بالتحديد، كانت الرابط بين حجابهن وبين ذلك العالم في الضفة المقابلة. كأنها هي التي كانت تطمئنهن إلى أنهن لسن محصورات في البوتقة والنمط، وتؤكد نيابة عنهن صورةً يردنها لأنفسهن، ولو لم يكُنّ بمستوى جمالها وشياكتها. إذ يكفي أنها، مثلهن، محجبة وزوجة وأُمّ. كأنهن خسرن جسراً، فبدا غضبهن مختلفاً عن سائر المنددين والمنددات بتمزيق الراية، ولعلهن أشد خطورة..
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها