الأحد 2017/09/17

آخر تحديث: 11:44 (بيروت)

إدوار لويس.. الفتى الذي حوله العنف كاتباً

الأحد 2017/09/17
إدوار لويس.. الفتى الذي حوله العنف كاتباً
هرب إدي بيلغول. هرب من أبويه وأخيه ورفاق دربه ومعلميه
increase حجم الخط decrease
كثير من العنف والفقر والمعاملة السيئة وربما الحظ السيئ، دفع بشاب في مقتبل العمر لأن يكتب روايتين قصيرتين، ليستا في الواقع سوى سيرة ذاتية. وكان هذا كافياً لكي يغدو هذا الشاب، واحداً من أشهر كتاب فرنسا الآن، إن لم يكن أشهرهم.

هو إدوار لويس الذي أصدر رواية بعنوان “وداعاً بيلغول” عام 2014 وكان في الثانية والعشرين من العمر. ثم أصدر بعد عامين رواية بعنوان “تاريخ العنف”.

كان يتعرض للضرب على يد رفاقه في المدرسة والتعنيف على يد الأهل في البيت، كل ذلك لأنه هادئ، ناعم، منطو على ذاته، يتصرف كالفتيات.

تربى في محيط يكن له العداء لا لشيء سوى أنه لا يشبهم. تخمرت في نفسه كراهية شديدة لذلك المحيط، ولكن لنفسه أيضاً، هو العاجز، السقيم، الضعيف، الذي لا يقدر على القيام بأي شيء.

يمكن للغضب أن يكون مدمراً، يهلك النفس، ولكنه يمكن، إن أحسن استثماره، أن يتحول إلى طاقة خلاقة تحرر الذات وتطلق العنان للإبداع. هذا ما فعله إدوار لويس.

اسمه الحقيقي هو إدي بيلغول، غير أنه أجرى تصفية حساب مع كل ماضيه. تخلى عن أهله وبلدته ومحيطه وأصدقائه ورحل. ذهب إلى باريس. اقتحمها مثلما فعل من قبله ذلك الفتى الملعون الآخر الذي كان اسمه آرثر رامبو. دخل باريس بعد أن ترك كل شيء خلفه، بما في ذلك اسمه. تبنى أسلوب حياة ونمط عيش جديدين، على الطريقة البرجوازية، وإتخذ اسماً جديداً: إدوار لويس. قام بقطيعة فعلية ولكن رمزية أيضاً، حين تخلى عن ماضيه، وترك أهله ومحيطه هناك، فإنه ترك نفسه القديمة أيضاً، تخلى عنها للأبد. انفصل عن ذلك الفتى الهش، الخائف، المتردد وتبنى ذاتاً جديدة.

انتسب إلى مدرسة العلوم الإجتماعية وغدا من أشد المعجبين بأفكار عالم الإجتماع الفرنسي بيار بورديو. ويبدو تأثير بورديو جلياً في نصيه الروائيين في أنه تمكن من الغوص في الكيفية التي ينغرس فيها السلوك الطبقي في وعي، ولاوعي، الأفراد، بحيث أنه ينعكس في الملبس والمأكل والأذواق والإشارات وحركات الجسد واللغة.

أراد أن يكون في مكان يستوعب شخصاً لا يستطيع أن يكون فظاً وعدوانياً، ولا يريد أن يكون كذلك. أن يتقبله الناس مثلما هو: مثلي الجنس، رقيق، مهذب، يحب الأناقة والثقافة والذوق الرفيع. هل هذا كثير؟

كان سعيه الأساسي هو أن يندمج مع المحيط لا أن ينفصل عنه. أن يتقبله الآخرون وألا يمارسوا بحقه التعنيف والتشهير والنبذ والبطش. كان يريد أن يعيش حياة عادية، مثله مثل غيره، من دون أن ينغص عليه الآخرون العيش. كان يريد أن يدرس وينجح ويجعل أهله يفتخرون به. غير أنهم رفضوه. نبذوه، لاحقوه، سخروا منه، ضربوه.

المجتمع الذي ولد في ربوعه كان صارماً في معاييره. أحكامه قاطعة ونهائية. موازينه لا تقبل المساومة. فإما أن تكون كما يريد أو لا تكون. هذا مجتمع ذكوري، أبوي، عنيف، ويتوجب على من يريد العيش في كنفه أن يكون على هذه الصورة.

لم يكن في مقدور الفتى الأنثوي النزعة، المتأرجح، القلق في الروح والجسد، أن يتكيف ولم يكن أمامه، لكي يعيش، من سبيل سوى الهرب. سيكون فريسة سهلة لعنف لا يرحم يأتيه من كل صوب. من البيت والمدرسة والشارع. تنفتح الرواية الأولى على مشهد ينقض فيه صبيان في المدرسة على الفتى المحصور في زاوية خلفية من المدرسة بعيداً عن الأنظار. يبصقون عليه ويهينونه ويضربونه.

هرب إدي بيلغول. هرب من أبويه وأخيه ورفاق دربه ومعلميه. هرب من بلدته، من الطبقة الفقيرة التي ترعرع في صفوفها. هرب إلى باريس. إلى أحضان الطبقة الوسطى التي استقبلته بالترحاب. "الطبقة الوسطى أنقذتني". سيقول في ما بعد. بثقافتها وتسامحها ومرونتها ومدنيتها.

عادة ما يعتبر الهروب ضعفاً، ولكنه في حالة إدي، كان قوة. كان قراراً مثيراً يتطلب الشجاعة. أنقذه الهرب من الهلاك، ومن ثم منحه المجال لكي يمارس إنسانيته على أكمل وجه ويتفوق ويبدع. لقد ولد شخص جديد في مكان جديد مختلفاً عن شخصه الذي ولد في زمن سابق وفي مكان آخر.

 ثمة غضب عارم يقبع في أعماقه. غضب من أولئك الذين ألحقوا به الأذى طوال سنوات
عمره الأولى، وهي السنوات التي أسست لشخصيته اللاحقة. غضب مشتق من الجو العام الذي يتفشى فيه الغضب. هناك في ذلك المكان البائس.

هناك الكل غاضبون. غير أنهم عاجزون عن تصريف الغضب بما يفيدهم. إنهم محبطون ولكنهم مستسلمون للواقع. إنهم فقراء، ولكنهم لا يتسمون بالطيبة والرقة والتسامح، مثلما تخبرنا الصور الشائعة. إنهم ليسوا رواد السير نحو الثورة والتغيير، مثلما أخبرتنا النظريات الثورية. إنهم قساة وأجلاف وعديمو الرحمة. إنهم وسخون، قذرون، وحوش، لا رحمة في قلوبهم.

لم يتردد في القول إنه يكره الأدب الذي يمجد الأوساط البروليتارية الفقيرة ويخلع عليها رداءً رومانسياً. ليس في الأمر أية رومانسية. هناك بؤس وقذارة. الناس عالقون هناك ليس لأن المكان يستهويهم بل لأنهم عاجزون عن الانفلات منه. هم لا يملكون القدرة ولا الشجاعة للهرب. لا يحلمون بأفق أبعد، بمستقل أحسن. إنهم جبناء وخانعون وقانعون بالتفاهات التي يتمرغون فيها. الحديث عن البروليتاريا وقوتها التحررية وكل هذا اللغو المضحك ليس سوى إسطورة صنعها ناس عاطلون عن العمل.

الفقراء والمشردون والعاطلون عن العمل قنابل موقوتة. إنهم يختزنون العنف الذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة. وهذا ما عاشه بالفعل، مرة أخرى، في باريس أيضاً.

في أمسية عيد الميلاد عام 2013 التقى في الشارع، صدفة، بشاب مغربي وسيم اسمه رضا. تعرفا على بعضهما بعضاً. أعجبا ببعضهما بعضاً. ذهبا معاً إلى شقته. احتفلا بعيد الميلاد على طريقتها، شربا وغنا ومارسا الحب وشعرا بالهناء والفرح معاً. غير أن العنف المخزون في أعماق الفتى المغربي، اللاجيء، الشارد، الهارب، انفجر دفعة واحدة. تحول إلى شخص آخر، عنيف، شرس، قاس، ذكوري، صارم. هجم على مضيفه. ضربه واغتصبه. أي أنه لم يشأ أن يمارس معه الجنس بهدوء بل بالقوة والإكراه. ثم أنه سرق النقود والهاتف الجوال ومضى.

هذا هو لب الرواية الثانية، التي أسماها تاريخ العنف لأنه حاول بالفعل أن يمرر وجهة نظر سوسيولوجية، على طريقة بورديو، في متن الرواية.

عندما تتعرض للعنف بشكل مستمر، في كل موقف، في كل لحظة، في حياتك، ينتهي بك الأمر لأن تعيد تصريف ذلك العنف بشكل آخر. تمارسه على الآخرين الأضعف منك. لكي تنتقم مما حل بك. كتابة الرواية كانت نوعاً من الانتقام لماضيه. للعنف المجتمعي، الذكوري، القاسي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها