السبت 2017/09/16

آخر تحديث: 12:05 (بيروت)

رجاء النقاش لا يعرف يحيى حقي!

السبت 2017/09/16
رجاء النقاش لا يعرف يحيى حقي!
هل حب النقاش ليحيى حقي.. يكفيه ليؤلف عنه كتاباً؟
increase حجم الخط decrease
قبل أسابيع قليلة، صدر عن الهيئة العامة لقصور الثقافة في مصر، كتاب "يحيى حقي.. الفنان والإنسان والمحنة"، من تأليف رجاء النقاش، وليس محتوى الكتاب جديدًا، فهو عبارة عن مقالات سبق نشرها، لكن الجديد فيه أن المؤلف كان قد أعده –قبيل وفاته- للنشر في صيغة كتاب، بعدما رتب مقالاته بحسب موضوعها، وليس بحسب أسبقيتها في النشر. ولا تبدو حصرية مادة الكتاب من عدمها مهمة، طالما تعلق موضوعه برائد من رواد الأدب العربي مثل يحيى حقي، وطالما امتلك مؤلفه منجزاً صحافياً لافتاً على غرار رجاء النقاش، فهو مُؤَلف مغر بالقراءة بكل تأكيد، لولا أن كشفت مادة الكتاب أن النقاش لا يعرف شيئًا عن يحيى حقي!

إن القول المصري الدارج "تعرف فلان؟.. أعرفه/ عاشرته؟.. لأ/ تبقى متعرفوش"، يبدو خير مثال للتدليل على محتوى ذلك الكتاب الفقير. فغياب المعرفة المذكورة آنفًا، لا تعني أدبيًا أن يكون الباحث على علاقة ود وثيقة بموضوع بحثه، وإنما قد تعني أنه قد قرأ أعماله كلها بعناية وتتبع سيرته الذاتية عبر مصادرها القريبة جدًا منه، وفي هذا الكتاب الذي جاء في 157 من القطع المتوسط، لا يبدو أن النقاش قد تتبع تلك السيرة بما هو أبعد من نشأة الكاتب ومن حادثة أو حادثتين تعرض لهما في حياته، من دون أن يجهد نفسه ولو قليلًا في تقصي أثر تلك الحوادث في حياة يحيى حقي. أما قراءة أعماله؛ فلم يتعرض الكتاب بالتحليل إلا لنصين فقط من النصوص الـ29 لرائد القصة العربية.

من المنطق ألا نطالب مادة صيغت في الأساس على هيئة مقالات، ونشرت في أوقات متباينة، أن تقوم بمقام كتاب بحثي رُصد منذ بداية تأليفه لتتبع السيرة العملية والشخصية لأحد الكُتاب. لكن، من المنطقي أيضًا، أن تتعرض تلك المقالات الـ17 التي يضمها الكتاب، إلى أدب ذلك الأديب من زوايا مختلفة، أو أن تتعرض بالتحليل لأعماله غير الرائجة. لكن من يقرأ كتاب النقاش، لن يخرج منه إلا بالصورة العامة المعروفة سلفًا عن يحيى حقي، من كونه عاشقاً للغة العربية، رغم أصوله التركية، يمتلك أسلوبًا شعريًا، ويتصف شخصه بالحياء، وأن "قنديل أم هاشم" درّة أعماله.

الكليشيه كما يجب أن يكون
في تقديمه للكتاب، يقول الشاعر جرجس شكري، أمين عام النشر بالهيئة العامة المصرية لقصور الثقافة، إن أسرة رجاء النقاش أهدت الهيئة هذا الكتاب الذي أعده النقاش للنشر بعدما وضع له عنوانًا: "تلميذ السيدة" –وهو عنوان أحد المقالات- لكن الموت أدركه قبل تحقيق ذلك، وأن هذه المقالات التي يضمها الكتاب نشرت في الفترة ما بين العامين 1992 و2005، وأن أسرة النقاش رأت تغيير عنوان الكتاب إلى "يحيى حقي الفنان والإنسان والمحنة" –وهو عنوان مقال آخر في الكتاب- ليكون أشمل في تعبيره عن موضوعه. ورغم أن العنوان الأخير كليشيه، إلا أنه لا يُقارن  بما أقدم عليه النقاش فعلاً أثناء كتابته لتلك المقالات.

ففي نهاية المقدمة، يشير جرجس شكري إلى أن في المقالات بعض التكرار الناتج عن نشرها في فترات متباعدة، وأنها لا تتعدى حيز إعادة ذكر بعض المعلومات عن أسرة حقي ونشأته. لكن الحقيقة غير ذلك. فالتكرار ليس تكرارًا لمعلومة أو وصف أو فكرة، بل إن رجاء النقاش كان يأخذ فقرات كاملة بنصها -الذي قد يتعدى الصفحة أو الصفحتين- من مقالات فيضيفها إلى أخرى، وكأنه مثلاً كان يحتار كيف سيكمل هذا المقال أو ذاك، فيعود إلى ما كتبه من قبل لينسخ منه ما يستطيع به إكمال مقاله الجديد. وقد حدث ذلك في ثماني مقالات، هي: "تلميذ السيدة زينب" وفيه اقتباسات من "يحيى حقي والحياة النظيفة"، "عاشق اللغة العربية" من "آه لو كانوا يعلمون"، "ويسألونك عن الشعر" من "هدية يحيى حقي للفتيات الصغيرات"، "الفنان والإنسان والمحنة" من "طيب وغلبان ولكنه خيبان"، وهذان الأخيران يكادان يتطابقان فكرة ونصًا، لولا اختلاف العنوان والمقدمة.

ولم يطاول التكرار، نصوص المقالات فحسب، بل امتد إلى المصادر التي استقى منها النقاش معلوماته عن صاحب "صح النوم"، حيث استند إلى حوار حقي مع الناقد فؤاد دواره، المنشور في كتاب الأخير وعنوانه "عشرة أدباء يتحدثون"، فاقتبس منه في تسع من مقالات الكتاب، وهي:" بين يحيى حقي وسيد قطب، لماذا قال يحيى حقي عن نفسه أنا قليل الأدب، طيب وغلبان ولكنه خيبان، آه لو كانوا يعلمون، هدية يحيى حقي للفتيات الصغيرات، يحيى حقي وخواطر في النفس والجسد، تلميذ السيدة 2، عاشق اللغة العربية، الفنان والإنسان والمحنة"، ومثل ما سبق، اصطفى النقاش اقتباسات قليلة من الحوار وسار يتنقل بها من مقال إلى آخر في تكرار ممل.

ولا يبدو أن النقاش قد قرأ ذلك الحوار الذي يكشف عن وجه آخر لحقي، في تأن أو اهتمام حقيقي. فحقي يبدو خلال حواره مع دواره، شديد الاعتداد بذاته وبما كتب، في صورة تتناقض مع الحياء البادي على هيئته وتعاملاته في الحياة العادية، وهي الصورة التي سعى النقاش إلى ترسيخها خلال مقالاته المتعددة،. بل إن اللقاء الطويل الذي احتل 41 صفحة من كتاب دواره، يحمل معلومات وملاحظات مهمة رصدها المحاور عن حياة صاحب "سارق الكحل"، منها على سبيل المثال، ما ذهب إليه دواره من أن السبب وراء توقف يحيى حقي عن الكتابة في سن السبعين، هو احتياجه لسكرتير مثقف يعينه على القراءة ويملي عليه ما يود كتابته، إلا إنه لم يستطع أمين راتب لتعيين مثل هذا المساعد.

إن هذا التكرار الغريب وغير المفهوم الذي أقدم عليه النقاش، كان ليغضب يحيى حقي نفسه إذا امتد به العمر ليقرأ هذا الكتاب، حيث يقول في حديثه المشار إليه مع دواره –ولعله بات مفهومًا لماذا لم يضم النقاش هذا المقطع إلى مقالاته: "ليس في هذا الكتاب (يقصد "صح النوم") لفظ واحد لم يكن موضع جس ووزن. وفي صفحات كاملة لا يتكرر فيها لفظ واحد. والمسألة مع ذلك ليست مسألة صنعة بل مسألة ثراء في المعاني والأحاسيس التي تتطلب ألفاظ لا تتكرر". ولربما شعر حقي بالغضب أيضًا إن اكتشف أن النقاش لم يتعرض في مقالاته بالتحليل سوى لعمل واحد من أعماله، هو "قنديل أم هاشم"، بالإضافة إلى قصة "نهاية الشيخ مصطفى" من مجموعة "الفراغ الشاغر". أما أعمال "خليها على الله، دماء وطين، الفراش الشاغر، أم العواجز، عطر الأحباب، من فيض الكريم، من باب العشم، كناسة الدكان، تراب الميري"، التي جاء ذكرها في الكتاب، فقد أوردها النقاش - باستثناء "دماء وطين، والفراش الشاغر"- مجتمعة في المواضع التي أراد فيها الاستدلال على أثر نشأة حقي في حي السيدة زينب في مواضيع أعماله واختيار عناوينها. أما نصوص حقي التي تعرض لها النقاش بالاقتباس، فهي: "كناسة الدكان"، و"فجر القصة القصيرة". والمثير للسخرية أن تلك الفقرة القصيرة التي اقتبسها النقاش من "فجر القصة"، سبق أن ضمنها دواره -بالنص ذاته- في صيغة أحد الأسئلة التي وجهها إلى يحيى حقي!

إن النقيصة الأساسية في ذلك الكتاب، ليست في هذا التكرار المريب/الممل الذي قام به رجاء النقاش، وإنما في عدم توغله عميقًا في شخصية يحيى حقي أو في أدبه، واكتفائه بالظاهر منهما،. فرغم تعرضه بالتفصيل لأزمة مهمة ألمت بصاحب "ناس في الظل"، حين سُجّلت له ومحمود شاكر والشيخ الباقوري، جلسة يسب فيها الأخيران جمال عبد الناصر، فإن النقاش توقف بالبحث عند تقصي وقائعها، ولم يجهد نفسه –ولو قليلًا- لتتبع أثرها النفسي فييحيى حقي.

يقول الأديب الروسي تشيخوف: "إن كان في وسعك أن تحب، ففي وسعك أن تفعل أي شيء"، وهي الجملة ذاتها التي استهل بها رجاء النقاش مقدمة كتابه "أبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة"، الصادر في العام 1965. فهل آمن النقاش بتلك الكلمة إلى حد إقدامه على إعداد ذلك الكتاب، والذي يتضح من خلال صفحاته، اطمئنان مؤلفه بشكل كبير إلى صيغته النهائية، حيث راجعه وتدخل فيه بالإضافة إلى ربط مقالاته أو فصوله –كما أسماها- بعضها ببعض؟ وهل حب/تقدير رجاء النقاش ليحيى حقي، وحده، يكفيه ليؤلف كتابًا عنه؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها