الجمعة 2017/09/01

آخر تحديث: 00:59 (بيروت)

رفعت سلام لـ"المدن":النمنم مريض بالوزارة والدولة ضد الثقافة

الجمعة 2017/09/01
رفعت سلام لـ"المدن":النمنم مريض بالوزارة والدولة ضد الثقافة
إهدار بالملايين من المال العام على الراكد والبائر، ومحاصرة ما يُقبل عليه القراء ويطالب به المثقفون
increase حجم الخط decrease
رفعت سلام يعمل في هدوء. لا يسعى لإثارة الانتباه، لكنه يكتفي بالإنجاز، يؤمن بأن الإنجاز يضمن لصاحبه البقاء لفترة أطول، التأثير رغمًا عن الجميع، يضمن لصاحبه الخلود. ترجم سلام أشعار الكثير من الشعراء العالميين مثل بودلير وريتسوس، ومؤخرًا صدرت ترجمته لأشعار والت ويتمان "أوراق العشب" بعدما أمضى أربع سنوات يترجمها.
منذ أسابيع، بدأ صراع بين سلام وهيئة قصور الثقافة بسبب تعمد إدارة النشر بالهيئة، والكلام على عهدة سلام، تعطيل عمله كرئيس لتحرير سلسلة "آفاق عالمية". وخرج الشاعر جرجس شكري، أمين عام النشر بهيئة قصور الثقافة، ليكشف لجريدة "أخبار الأدب" القاهرية عن أنه أرسل لسلام بشكل رسمي، طالبًا منه التعاون لإنهاء بعض الأمور بخصوص عمل السلسلة، غير أن الأخير لم يرد.
هنا، يتحدث سلام فى حوار لـ"المدن" عن أزمته مع هيئة قصور الثقافة، موقفه من الوزير حلمي النمنم، وأمور أخرى.


- لماذا استقلت من رئاسة تحرير سلسلة آفاق عالمية؟

* حين بدأت مشروع "المائة كتاب" (ترجمة وإصدار أهم مئة عمل أدبي في التاريخ، في اللغات المختلفة)، كنت أدرك أن "الوقت" هو عدوي الأول. فالسلسلة شهرية، أي أنني لن أتمكن إلا من إصدار 12 عملاً في العام، في أفضل الأحوال، وخاصةً أن قيادة هيئة قصور الثقافة طلبوا مني التعاون معهم برئاسة تحرير سلسلة "آفاق عالمية"، المتخصصة في الترجمة، في نهاية عام 2011، في ظل الارتباك الأقصى في البلاد. لكني قبلت، وعكفت بجدية على تأسيس المشروع. ورغم الارتباك، إلا أننا استطعنا المضي في المشروع، وإطلاقه في منتصف 2012، وقدمنا أعمالاً غير مسبوقة الترجمة، على الصعيد العربي والمصري معًا، تصل إلى 30 عملاً، في ترجمة موثوقة مكتملة، حريصة على ما يهمله المترجمون عادةً: السمات الأسلوبية للمؤلفين.. وحين اتضحت واستقرت المعالم، طلبت رسميًّا إصدار السلسلة بصورة "نصف شهرية" لمضاعفة عدد الإصدارات كل عام، وخاصةً مع تلهف القراء على أعدادها، ونفاد كل عدد في زمن قياسي غير معهود. وبالطبع، لم يحققوا ذلك. ورضيت بالإيقاع العادي: باثنَي عشر عددًا كل عام..
ومنذ عام، بمجيء الإدارة الجديدة للنشر في هيئة قصور الثقافة، التي تصدر عنها السلسلة، فوجئت- على النقيض من توقعاتي- بتعطيل ومماطلة فاقا الوصف، وصل إلى حد أننا- في نهاية العام الأول لها- لم نستطع إصدار إلا ثلاثة أعداد من اثنَي عشر عددًا. فإذا أضفت إلى ذلك التعطيلات السابقة على هذه الإدارة، لوجدت الأمر عبثيًّا؛ حيث أصبح رئيس تحرير لسلسلة شهرية لا تصدر، والأعمال التي كلفتُ بها أصدقاء مترجمين تتراكم عندي، وأنا بلا حيلة، بعدما عكفوا على الترجمة ما بين عامٍ من الأشغال الشاقة، وعامين. فما جدوى الاستمرار في هذا الوضع العبثي، بلا أفق؟
وزاد الطين بلة أن كبير الموظفين في إدارة النشر حاول فرض أعمال خارج نطاق توجهات السلسلة، ولا ترقى إلى مستواها، وهو شخصٌ بعيدٌ تمامًا من مجال الترجمة. بل توهم أنني موظفٌ لديه، فأرسل لي خطابًا "رسميًّا" يتسم بالجلافة والابتذال، فرفضت استلامه.. مرةً أخرى، قلت لنفسي، ما جدوى الاستمرار في مثل هذا الوضع العبثي؟


- التقيتَ برئيس هيئة قصور الثقافة، فلماذا لم يحل الأزمة؟

*دعاني رئيس الهيئة إلى أن نشرب قهوة في مكتبه، لنتوصل إلى حل للموقف. كان الموعد بعد ثلاثة أيام. خلال الثلاثة أيام، أعدت تقييم الوضع، بكل تفاصيله، الموضوعية، والسلوكية الخاصة بكبير الموظفين؛ فوجدت الأمر محكومًا بالدخول في طريق مسدود، سوف تستنزفني مهاتراته وابتذالاته، وتضيع جهدي ووقتي وأعصابي في ما لا طائل من ورائه؛ وفي النهاية، سيصدر لك- في عام كامل- كتابان أو ثلاثة مثلما حدث من قبل، فيما لو احتملت، بدلاً من اثنَي عشر كتابًا. وهو الهراء ذاته. فذهبت إلى الموعد، وأبلغته بتمسكي بالاستقالة، وعدم ضرورة مناقشة أية تفاصيل واردة بها، أو تتعلق بالسلسلة.
فالجميع يعرف أن هذه المؤسسة- التي كانت ذات يوم قاطرة قوية للثقافة المصرية- تمر الآن بمرحلة الخراب الأقصى، الذي لم تشهده طوال تاريخها، شأن وزارة الثقافة كلها. ولا جدوى من محاولة الترميم، فهو خراب شامل لن يمكنك الخروج منه سالمًا. ولأني كنتُ حاسمًا في أمر الاستقالة، فقد خرجتُ- لحسن الحظ- سالمًا، دون أن يطالني هذا الخراب.


- ولماذا كتب جرجس شكري، أمين عام النشر بهيئة قصور الثقافة، ما كتبه في "أخبار الأدب"، معلنًا أنه وجهة إليك رسالة رسمية لإنهاء بعض الإجراءات، لكنك لم تردّ؟

* لا أدري. لقد كذب الرجل كذبة مفضوحة بشأن "رسالة رسمية" مزعومة وجهها إلي، باعتبارها سبب استقالتي، ليشوش على الأسباب الحقيقية الواردة في الاستقالة المعلنة، والمنشورة في كثير من المواقع. وللأسف، لم يسأله المحرر الذي أجرى الحوار عن هذه الرسالة ويطلب صورتها لنشرها. وحين طالبته، على صفحتي في فايسبوك- بشكل فظ استفزازي- بنشر تلك الرسالة المكذوبة، الوهمية، لم ينطق. وتهرب- في موضوع نشرته جريدة "الدستور" المصرية- من التعليق على موضوع الرسالة، وفضل الحديث في شأن آخر.
فهل يمكن إدارة الشؤون الثقافية بالكذب؟ وهل التدليس من مؤهلات مَن يحتل مثل هذه المناصب؟
وقد كتب أحد كبار المثقفين والمبدعين على صفحتي في "فايسبوك" تعليقًا "علنيًّا" قد يضيء الأمر: "فاجأني الجانب الخفي والمعتم فى شخصية جرجس شكري؛ قد نتجاوز عن الجهل والخفة، وقد نتسامح مع عدم الخبرة، ولكن كيف نفهم عبودية الروح أمام وهم السلطة. لقد تلاقى تصاغره الشخصي مع تفكك المؤسسة الثقافية وانحدارها إلى مستنقعات وهزال إداري وفكري، نقيضًا لمشروعك الاستثنائي".

- كتبتَ بيانًا وقع عليه حوالى 350 مثقفًا وطالبتَ فيه بإقالة حلمي النمنم.. هل توقفت الأمور عند هذا الحد، أم أن هناك خطوات لتصعيد المسألة؟ وهل ترى أن المشكلة تنحصر في النمنم، أم أنها سياسة ثقافية عامة لا بد لها أن تتغير؟

* لديَّ حدسٌ بأن البيان الذي أصدرته، في صفحتي الفايسبوكية، ووقع عليه مئات المثقفين للمطالبة بإقالة الوزير النمنم ومحاسبته، ربما حرّض النمنم على استمراري بالسلسلة (كأنني مستفيدٌ من ذلك) بافتعال مشكلة "سلوكية" مبتذلة معي، لدفعي إلى الاستقالة.
لاقى البيان صدًى طيبًا في المواقع الصحافية شبه المستقلة. ولأني لستُ حزبًا أو هيئةً أو منظمةً، فقد توقف الأمر عند هذا الحد. فلم يكن ممكنًا لي أن أقوم بما هو أكثر من ذلك؛ بما هي مسؤولية الأحزاب والهيئات المستقلة، التي تعيش منعزلة عن الحركة الثقافية، فيما تطالب المثقفين بالتبعية لها. فإذا كانت الدولة لا تضع "الثقافة" ضمن أولوياتها، فتلك الكيانات المستقلة تنظر- بدورها- إلى الثقافة والمثقفين من أعلى، بلا اكتراث بحركتهم وقضاياهم، لتعيش الأطراف "المستقلة" كلها في جُزر معزولة عن بعضها البعض. و"لا يُصلح الشاعر ما أفسدت السياسة".
وبالتأكيد، فالنمنم تعبير عن اختيارات وتوجهات النظام، في ما يتعلق بالشأن الثقافي. وهي توجهات هدَّامة للثقافة وللمؤسسات التي قامت على أكتاف مثقفين مخلصين حقًّا على مدى عقود سابقة، وقدمت خدمات ثقافية- برغم كل السلبيات التي يمكن رصدها- لم تعد قابلة للتعويض.

دار حديث خلال الأيام الماضية حول نقل تبعية هيئة قصور الثقافة، إلى وزارة التنمية المحلية.. ما تعليقك؟

* أظن أنها كانت بالونة اختبار، لاكتشاف رد فعل المثقفين.. لا أكثر. ولولا أن الوزير النمنم هو "الرجل المريض" بالوزارة، لما حاول أحد وراثته وهو على قيد الحياة؛ لكنه يغري- في الحقيقة- أي عابر سبيل بالتهجم على المؤسسات التابعة لوزارته، حتى من أكثر الوزارات غرقًا في الفساد (نائبة محافظ الإسكندرية- التابعة لوزارة التنمية المحلية- تم القبض عليها اليوم، بتهمة الرشوة واستغلال النفوذ! وما خفي فهو أعظم!).
لكن الدلالة الأهم أن النية أصبحت مكشوفة عارية للتخلص من هذه الهيئة (ربما بضغط من التيارات السلفية والدينية). فقد أغلقت قصور الثقافة في المحافظات المختلفة على يد "الدفاع المدني" منذ سنوات طويلة. والآن، على يد الإدارة الحالية، يتم القضاء على مشروع النشر في الهيئة قضاءً مبرمًا، وهو الذي كان يلبي احتياجات الأدباء المتزايدة، التي تعجز عن تلبيتها هيئة الكتاب (في عام كامل هو العام الأخير، نشروا 43 عنوانًا، بدلاً من نحو 240؛ واعتبروا ذلك إنجازًا باهرًا! والكتاب الذي يقع في أربعة أجزاء يحتسبونه في البيانات المعلنة، أربعة كتب!).
وأظن أن ذلك هو ما يتم الترتيب له، وسيجري خلال الشهور المقبلةة، بعد بالونة الاختبار هذه...

- هل يهتم النظام السياسي المصري بالثقافة؟

* يحتاج تطوير الثقافة إلى نظام سياسي مغاير يضع الثقافة ضمن أولوياته. فالثقافة غير مرغوب فيها في ظل النظام الحالي. وهو لا يفهم ضرورتها ولا جدواها. وبالتالي، تتحول- في عقل مسؤوليه- إلى عبء مالي زائد عن الحاجة، وينبغي التخلص منه، وتوفير نفقاته، ربما لزيادة مكافآت العسكريين أو الشرطة، أو بناء مبان فخمة في العاصمة الجديدة العبثية. ولهذا، فالتخلص من "هيئة قصور الثقافة" يمكن أن يكون هدفًا منطقيًّا لنظام من هذا القبيل، يعقد تحالفًا وثيقًا مع السلفيين، ويعادي الثقافة بشكل عام.

- هل ترى أن الدولة لديها مشروع ثقافي؟

* الدولة لديها مشروع مضاد للثقافة؛ مشروع يقوم على تدمير المقومات الثقافية. فبالتزامن مع تخريب مشروع النشر بهيئة قصور الثقافة، تم الانقضاض على فروع مكتبة "ألف" الخاصة ومصادرتها، وفروع مكتبة "الكرامة". فهل هي مصادفة؟ أم هو تنفيذ الخطة على الصعيد "الحكومي" و"الخاص"، في الوقت نفسه؟
فالسلسلة التي قدمت خلالها- حتى استقالتي- 30 عملاً من أهم 100 عمل إبداعي في التاريخ الإنساني، كانت قد وصلت إلى حد أن ينفد كل عدد خلال 48 ساعة من صدوره. وقد طالبتُ مرارًا بمضاعفة كمية النسخ المطبوعة، بلا جدوى. وهي السلسلة التي تم إيقافها بدفعي إلى الاستقالة. أما مطبوعات المركز القومي للترجمة، التي تتراكم بلا توزيع عامًا بعد عام، فيحرصون على استمرارها كما هي، ربما لأنها كتب "بائرة" (قاموا مؤخرًا بإجراء تخفيضات على الكتب وصلت إلى 75% من سعر كل كتاب، للتخلص من الكميات الهائلة المخزونة، الراكدة، بلا أمل في التوزيع. وفي أحد معارض الكتاب- منذ عامين- باعوا نسخة الكتاب بجنيه واحد، للتخلص تخمة المخازن). إهدار بالملايين من المال العام على الراكد والبائر والخاثر، ومحاصرة ومصادرة في الوقت نفسه لما يُقبل عليه القراء، ويطالب به المثقفون.
إنه نظام مضاد للثقافة، ومعادٍ لها، ومتخبط في سياسته الثقافية. ويختلق الذرائع، التي يعرف أنها كاذبة وتافهة، للتخلص من الكيانات الثقافية الجادة، واحدًا واحدًا.

- هل أنت مع إلغاء وزارة الثقافة؟

* لعل مَن يطرحون هذه الفكرة لم يبحثوها جيدًا. وربما كان النموذج الذهني لديهم هو البلدان الأوروبية حاليًّا؛ تلك البلدان التي قطعت أشواطًا بعيدة مدفوعة الثمن تمامًا- على مدى قرون- في التطور الحضاري، بالمعنى الشامل. وهو التطور الذي سمح لهم بألا تكون لديهم أمّية، وباستقلال النقابات، وحرية الرأي والتعبير بلا رقابة على الكتب ولا الصحافة ولا الإبداعات المختلفة (بما فيها السينما)، وحرية المبادرات والإبداعات الفردية والخاصة، بدعم من بعض أجهزة الدولة، وفي الوقت نفسه، بلا رقابة أو ترصد بوليسي.
لكننا- قياسًا بالبلدان الأوروبية- لا نزال في ظلمات العصور الوسطى: سلطات مطلقة للحكام من العسكر والشرطة والقضاة، وسلطات كهنوتية مطلقة للأزهر والكنيسة في فهم وتأويل الدين (والتكفير فالحبس جزاء مَن يخرج على التأويل الكهنوتي المفروض)، وفساد وقمع مطلقان. وإلا، فكيف يمكن تفسير حبس مثقفين ومدونين على "آراء" أبدوها هنا أو هناك؟ وحبس روائي على فقرة روائية، وشاعر على قصيدة سياسية؟ وهل تخفى على أحد مطاردة الإعلاميين المستقلين من القنوات الخاصة، ومصادرة الصحف والكتب بين الحين والحين، إن تخطت الخطوط الحُمر التي تكاثرت في الآونة الأخيرة؟
فهيئات وزارة الثقافة ما زالت منفذًا ثقافيًّا مفيدًا، بلا ما زالت بديلاً في المستقبل المنظور، في ظل نسبة الأمية الرهيبة، وغلاء الكتب والسلع الثقافية المختلفة بأسعار خارقة، إلخ. وتكلفة إصلاح ما يعتريها حاليًّا من فساد أقل بكثير- في حالة وجود نظام سياسي مغاير في توجهه الثقافي- من التكلفة التي سيدفعها المجتمع من جراء إلغائها وهدمها تمامًا. فهذا الهدم والإلغاء هو الهدف الأول للأصوليين والسلفيين والجهّال.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها