الأحد 2017/08/06

آخر تحديث: 12:24 (بيروت)

"مرايا الجنرال" لطارق بكاري.. دروب المصالحة والهوية

الأحد 2017/08/06
"مرايا الجنرال" لطارق بكاري.. دروب المصالحة والهوية
يلجأ الروائي إلى الذاكرة لتكون أداته إلى إعادة بلورة هويّة وطنيّة منشودة،
increase حجم الخط decrease

يضع المغربيّ طارق بكاري في روايته "مرايا الجنرال" شخصيّات من السلطة والمعارضة في مواجهة مباشرة مع تاريخها الأسود، كأنّه بصدد إجراء محاكمة روائيّة لها، وذلك من خلال دفعها إلى الاعتراف بخطاياها تجاه الناس والبلاد، ومساهماتها في دفع الأمور إلى منعطف خطير ما تزال تأثيراته وتداعياته فاعلة ومستمرّة تجاه الجيل الجديد.

أثقل بكاري روايته (الآداب 2017) بالاعتماد بشكل شبه كامل على أسلوب التراسل بين الشخصيات، إذ تشكّل الرسائل فصول الرواية، يكون التمرئي من خلال تبادل الرسائل التي تكون مرايا التاريخ وشخصياته وأحداثه، تتوجّه بها الشخصيّات إلى بعضها بعضاً، وبمسافات زمنية متباعدة، تبدأ بالسبعينيّات من القرن العشرين وتستطيل لتعبّر عن مآسي عقود من الظلم والإجحاف والغربة والتدمير. كما أنّ اليوميات تحضر لتكمل مشاهد أخرى من السير التي تحكيها الرسائل وتكشف عنها.

في المكان المتخيّل ليكسوس آباء غير شرعيّين في مواجهة أبناء تائهين، مستعمرون ومستبدّون في حرب دائمة مع ضحاياهم، أجيال حائرة في صراع متجدّد مع أجيال منكسرة ضائعة في حيرتها وذكرياتها، باحثة عن سبل للعودة إلى سلامها الداخليّ المفقود، ومحاولة التطهير من الخطايا بمختلف الوسائل الممكنة، ويكون التصارح والكشف عن القباحات المقترفة في الماضي بداية تطهير للذات مع الإمعان في إيلامها حين التذكّر، وجلد الشخصيات بالذكريات، عسى أن تستدلّ على هويتها التي تشعر بخوائها وتبدّدها.

عيادة الطبيبة النفسية ليلى حداد تكون مسرحاً لتصفية حسابات مع الماضي، ومَعبراً لكشف المخبوء المدفون في ذاكرة قاسم، الذي كان سيد البلدة ذات زمن، وكان يستبدّ بأهلها، ويهين معارضيه ويتلذّذ بممارساته الشنيعة بحقهم، وكان نموذج السلطويّ الفاسد الذي يدمّر البلاد في حين يزعم الدفاع عنها وحمايتها من أعدائها في الداخل، وهو نموذج متناسل كقاتل متسلسل يخدم سلطة طاغية باغية.

الاغتراب الذي يبقي بكاري شخصيّاته تائهة في محيطه يدفعها إلى عقد مصالحات في دروب مختلفة، كلّ شخصيّة من شخصيّاته تبحث عن مصالحتها الخاصة مع ماضيها وحاضرها ومستقبلها، قاسم ينشد السلام والطمأنينة، ويسعى إلى الاعتراف بذنوبه التي لا تحصى، يسرّب إلى الطبيبة ليلى فجائعه التي لم يستطع التحرّر منها على مدى عقود، كما أنّ ليلى نفسها تكون مسكونة بفجائع خاصّة بها، ولاسيّما أنّها تجدّ بالبحث عن والديها المفقودين اللذين لم تتعرّف إليهما، وتبقى في صراع للبحث عن الأسرة والذات معاً.

هناك سيمون الذي يحاول الاعتراف بذنوبه أيضاً، وجناياته، يرسل رسائله التي لن تصل إلى حبيبته جواهر، ويبوح لها بما اقترفه بحقّها، وحقّ الناس الذين حاول وجماعته الثوريين التغرير بهم، ورسم صورة غير دقيقة عن التغيير الذي ينشدونه من خلال استخدام العنف، ذاك التغيير الذي كان في جوهره بحثاً عن السلطة، ومحاولة تحقيق أحلام العدالة والمساواة التي تحوّلت إلى كوابيس على أرض الواقع.

جواهر المرأة المنشودة من قاسم وسيمون معاً، تخونهما، كما أنّهما يخونانها بطريقتهما المختلفة، تكون الخيانة حاضرة في صلب تلك العلاقات المتوتّرة، وكأنّما يرمز بكاري من خلال جواهر إلى بلاد يخونها عشّاقها المفترضون، إلى بلاد تخونها السلطة والمعارضة معاً، كما أنّها تبادلهما الخيانة بخيانة، بحيث يكون الكلّ مذنبا بحقّ غيره ونفسه، ولن يستطيع المزايدة عليه في الوطنية أو الشرف أو الولاء.. يرمز إلى غرق الجميع في أوحال الخيانة والتبعيّة.

يشير بكاري إلى تغيير المستعمِر لأقنعته بين الحين والآخر، وقدرته على التلوّن بحسب مقتضيات الزمن، والانتقال من مرحلة الاحتلال المباشر إلى الابتزاز واستغلال الموارد والتحكّم عن بعد. هناك الوكيل الاستعماريّ المستر هارفي كلارك الطبيب الذي يجري اختباراته القذرة على البشر، يقوم بتصميم عقول أتباع له، يدفعهم إلى خدمته، يكونون وسيلته لتأليبهم على أبناء بلدهم الذين يقنعهم بأنّهم أعداؤهم الذين ينبغي حماية البلاد منهم ومن مغامراتهم المتهوّرة التي من شأنها أن تؤدّي إلى نشر الفوضى والخراب في كلّ مكان.

يتغلغل بكاري إلى دواخل الجلادين الذين يصوّرهم ضحايا لجلّادين آخرين بدورهم، بالموازاة مع تصويره أخيلة ضحايا لعبوا أدواراً تخريبيّة من حيث لا يعلمون، أو من حيث كانوا يظنّون أنّهم بصدد تغيير العالم. ويكون الاحتراب المستعر داخل المرء، وذاك المتفعّل بين الذات والآخر، انعكاساً للحرب التي ظلّت تجول في طول البلاد وعرضها بين الحين والآخر لتخرّب ما تطاله ومَن تعديه.

"مرايا الجنرال" هي أشباحه وذكرياته وذاكرته وهويّته الغائبة التي تبقيه في قلق لا يستدلّ إلى أيّ طريق للتهدئة، وفي غربة متعاظمة، وتودي به إلى ضياع لا ينتهي. وتكون الرسائل المتواترة مرايا التاريخ والواقع، "مرايا الوجود والعدم"، والخير والشرّ، وغيرها من الثنائيات التي تكون حاضرة في لعبة التداوي بالاعتراف والكشف عن الأسرار الدفينة التي تفتّت أعماق أصحابها.

صبغ بكاري لغته بطابع شاعريّ برغم ما يسرده من فظائع ماضية، يحاول تخفيف وقعها عبر اللغة المسترسلة في الشاعرية والإنشاء والبوح، وتكون الشخصيّات انعكاساً لبعضها من حيث الأسلوب، وكأنّها تقرأ من الكتاب نفسه، أو تتحدّث باللسان نفسه، أو تعيد صياغة خطاب الاستشفاء والمصالحة اتّكاء على مرايا بعضها بعضاً...

يلجأ صاحب "نوميديا" إلى الذاكرة لتكون أداته إلى إعادة بلورة هويّة وطنيّة منشودة، وذلك بعد إلقاء الضغائن على مشرحة المحاسبة الذاتية، والمحاكمة التاريخيّة، ذلك أنّ أيّة خطوة مأمولة إلى المستقبل تحتاج إلى تخفّف من أحقاد الماضي التي تشكّل بؤراً مرشّحة للتفجير في أيّ وقت، وذلك من دون الاستخفاف بالمنزلقات التي تتربّص على طريق التصالح ذاك، وبخاصّة أنّ الأوهام تعود لتتلبّس الشخصيّات وتغزو أحلام يقظتها وواقعها، وتبقيها في دائرة العبث والجنون. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها