السبت 2017/08/05

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

الكينزية والحضارة الهشة

السبت 2017/08/05
الكينزية والحضارة الهشة
الإتهام لكينز بأنه ماركسي متخف، يفنده كينز نفسه: "في حالة الحرب الطبقية، أنا مع المعسكر البرجوازي"
increase حجم الخط decrease
عندما بدا النظام المالي العالمي وكأنه على وشك الإنهيار، في خضم أزمة 2007- 2008، عاد اسم الاقتصادي البريطاني، جون مينارد كينز، ونظريته الاقتصادية التي تحمل اسمه إلى الظهور، لتهيمن على الخطاب السياسي والجدل الأكاديمي من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين. لكن بعث الكينزية، التي كانت قد توارت منذ نهاية السبعينيات، لم يرجع بالضرورة إلى إدراك متأخر بوجوب العودة إلى منطق الاقتصاد المختلط، بل ربما إلى طبيعة الأسس الإيديولوجية للنظرية الكنزية، وبالأخص تأطيرها لمفهوم الأزمة، بوصفها الموضوع الرئيس للاقتصاد السياسي.

في كتابه "على المدى الطويل سنكون كلنا أمواتاً: الكينزية والاقتصاد السياسي والثورة" (الصادر هذا العام)، يعود جيوف مان لفحص نظرية كينز العامة، ونقدها، منطلقاً من سؤال مبدئي: ما هي الكينزية؟ وفي سبيل الإجابة، يفصل مان بين كينز ونظرياته وبين الكينزية. فكتاب النظرية العامة، الإنجاز النظري الأهم لكينز، والذي فند فيه النظريات الكلاسيكية ومفهوم "اليد الخفية" للسوق، القادرة على تحقيق توازن ذاتي بين العرض والطلب، وتصحيح تلقائي لمعدلات الأجور والأسعار، وبالتالي اختفاء البطالة الإجبارية على المدى الطويل، لا يرتبط مباشرة بالسياسات الكينزية، أي حتمية دور المؤسسات العامة في ضبط السوق والاستثمار والتحكم في معدلات التضخم والبطالة، والمحافظة على الفائدة في حدودها الدنيا. فبحسب مان، الكينزية أقدم من كينز ونظرياته، بل ويذهب إلى أنه بالرغم من تأثر كينز بأفكار هيغل فإنه لم يكن "هيغيلياً متخفياً"، بل العكس هو الصحيح، فهيغل هو الذي كان كينزياً، معللاً تلك الفرضية غير التقليدية بأن التاريخ يمكن قراءته بطريقة عكسية.

يذهب مان بقراءته العكسية إلى حدها الأقصى، بالعودة إلى الثورة الفرنسية، وخطبة ماكسميليان روبسبير الشهيرة، عن "الفقر بكرامة"، كاشفاً المعضلة الرئيسية التي واجهتها الليبرالية الديموقراطية منذ خطواتها الأولى، والتي تصدى لها هيغل في تناوله لمفهوم "الرعاع" لاحقاً. فمفارقة "الفقر في وسط الوفرة"، لم تكن معضلة أخلاقية بالنسبة الى روبسبير وحكومة اليعاقبة، بل كانت سؤال الضرورة الذي واجهته الثورة الفرنسية منذ البداية. فمدى عدالة الفقر المدقع والموت جوعاً، لم يكن ما يؤرق روبسبير أو هيغل، بل قدرة "هؤلاء الذين لا يملكون أي شيء ليخسروه"، أي الرعاع، على هدم المجتمع، والهبوط به إلى حالة الفوضى الكاملة. كانت الضرورة، "التي لا قانون لها" بحسب هيغل، هى حجة روبسبير في خطبته، لفرض قيود على الحرية الإقتصادية، بفرض تسعيرة للطحين على التجار لمواجهة المجاعة.

يعود مان بالكينزية إلى عدد من الثنائيات. فالمساواة التي نادت بها شعارات الثورة الفرنسية بقيت محصورة في المجال السياسي، حيث ينال جميع المواطنين حقوقاً متساوية. لكن الحرية في المقابل، حتمت القبول بعدم التساوي في المجال الاقتصادي، أي تفاوت الملكيات الخاصة والثروة. هكذا، فإن الفصل التعسفي بين السياسي والاقتصادي، وإخضاع كل منهما لقواعد مغايرة، انتهى بثنائية أخرى، هي المصلحة الفردية في مواجهة المصلحة العامة. فإن كانت الحرية في المجال الاقتصادي محكومة بدوافع الربح الفردي ومراكمة الثروة، وبالتالي إنتاج الفقر المدقع كعرض جانبي، فالمصلحة العامة ربما تقتضي تقييداً لتلك الحرية، لحماية المجتمع من الإنهيار.

يشترك كينز مع سابقيه روبسبير وهيغل، في توجسهما من الرعاع، وطاقتهم التخريبية، كما يشترك معهما أيضاً في ضرورة تدخل الدولة لتنظيم المجال العام، وبالأخص الاقتصادي. لكن كينز، مثلهما، لا يرى في الدولة مؤسسة تمثيلية ديموقراطية، بل هيئة نخبوية على شاكلة "الطبقة الكلية" الهيغيلية، أي طبقة الموظفين المدنيين. يكتب كينز: "المشكلة الاقتصادية، ليست صعبة جداً، فقط عليكم تركها لي وأنا كفيل بحلها". يذهب كينز في فصله للاقتصادي عن السياسي، لتأطير مسألة الاقتصاد كعملية فنية بحتة، يقع عبء تنظيمها على نخبة تكنوقراطية، لا تتعاطى السياسة.

يتعرض مان للنقد الذي طالما واجه الكينزية. فالإتهام اليميني لكينز بأنه ماركسي متخف، يفنده كينز نفسه: "وفي حالة الحرب الطبقية، فأنا سأتخذ بلا شك جانب المعسكر البرجوازي"، أما النقد الماركسي للكينزية على أنها محاولة لإنقاذ الرأسمالية من نفسها، وتدجين الطبقة العاملة، عبر إرغامها على القبول بـ"الفقر بكرامة"، فإن مان لا يقبل به أيضاً. فبحسبه، كان كينز معنياً بإنقاذ الحضارة، لا الرأسمالية.

"الحضارة هي قشرة رقيقة وهشة، بَنتها شخصيات وإرادة عدد قليل جداً، ويمكن بقاؤها فقط بواسطة القواعد والتقاليد التي يجب صياغتها بمهارة وعبر الحفاظ عليها بحذر". هنا يكشف كينز أن ما يؤرقه ليس هشاشة الرأسمالية، أو لاعقلانية آليات السوق الحر، بل هشاشة الحضارة. فصعود الفاشية في أوروبا، التي شهدها كينز بعد "الكساد الكبير" في الثلاثينيات من القرن الماضي، هو ما دفعه لصياغه نظريته العامة، في خضم أهوال الحرب العالمية الثانية من حوله. وما كان يشغل كينز، لم يكن فقط توجسه من "الرعاع"، بل قناعته، مثل هيغل، بعدم قدرة "المجتمع المدني" على تنظيم نفسه، من دون تدخل من الدولة ونخبتها التكنوقراطية. 
"على المدى الطويل، سنكون كلنا أمواتاً"، تلخص مقولة كينز الشهيرة، والتي اختارها مان لعنونة كتابه عن جوهر الكينزية وارتباطها بمفهوم الأزمة. فالسياسات الكنزية، معنية بالتطبيق على المدى القصير، كعلاجات مؤقتة لتناقضات ثنائيات الحرية والمساواة، وفصل المجال الاقتصادي عن السياسي، والمصلحة الخاصة في مواجهة المصلحة العامة. لا تعد الكينزية باستئصال الفقر، أو القضاء على البطالة كلياً، بل بالتحكم في معدلاتها إلى الحد الذي يمنع الإنهيار الذي تقف الحضارة على حافته دائماً. هكذا، ينفي كينز أي إمكانية لغايات نهائية، أو حلول كلية على المدى الطويل، بل مجرد تصدٍّ للأزمات واحدة بعد الأخرى.

وبالرغم من النقد الذي وجهه مان لكينز وأفكاره، ووعده في مقدمة الكتاب بتقديم بديل راديكالي للكينزية، فإنه يختم فصله الأخير، بنكوص عن وعده الأول، والتسليم بأننا "جميعاً كينزيون". لكن ومع تلك النهاية المخيبة للآمال، يطرح كتاب مان فهماً فريداً للمعضلات التي ما زالت الكينزية تسعي لمواجتها. فالمشكلة لا تبدو راجعة إلى طبيعة الرأسمالية وتوحشها، أو تناقضات الليبرالية الديموقراطية، بل إلى جوهر الحضارة نفسها. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها