أتذكُرُ يا جنكيز يوم احتضنتنا بيروت معًا،
كيف سرى من البحر والسماء
ضوءٌ أزرقُ باهتٌ،
والشوارعُ جذبتنا إليها؟
**
وهبَتنا المدينةُ حضنًا رحبًا هادئًا
متألقًا بجماله ليلَ نهار
كانت تعتبر باريس الشّرق
وأنا شخصيًّا كنت مؤمنًا بذلك
**
تزاحمتِ أعلام الدّول في مينائها
وعلى الشاطئ ازدحم السيّاح والباعةُ،
وهل سننسى النساء، بأثوابهن المزركشة
من قبائل شتّى، يتبخترن كحوريّات؟
**
وذاك، العربيُّ المتجه إلى الكازينو،
حملته سيّارة فاخرة من الفندق،
ومدّ يده بباقة زهر إليهنّ من الشبّاك:
أنا سعادتُك يا سيّدتي، يا سنيورا
**
هنا حيث الأبنية تحمل إعلانات ضخمة
مضيئة مذهّبة من الأرض إلى السطوح،
توحي بأنّ المدينة كلّها تخضع لها
لسيطرة الحِرَفِ والخدمات والتجارة
**
"اشتري، يا سيّدتي، هذا السوار النادر
فسعره رائع جدًا ومناسب"
"رفضُك لشرائه كرصاصة في قلبي،
سأخفّض السعر، كما تشائين".
**
هنا، لم يقتحمْ أحدٌ المنازل مهدّدًا
هنا، كانت أشعّة القمر تهزُّ مهود الأطفال
لن أنسى تلك الليلة التي قضيناها
في النادي الأرمني وسهرنا معًا
**
وأحدُهم، خلف الطاولة صاحَ: فلنغنّ!
وبعدذاك فاضَ صوتُه بسخاء
وغنّى الأرمن عن شيء ما يعنيهم
لكنّ الفرحة فاضت عنهم فشملتنا
**
أتذكرُ لبنانيًّا بصليبٍ على صدره
في الحانة خلف المشروبات اللاهبة
يجلس مع مسلمٍ محمّديّ
وكلاهما متألقٌ بفرح صادق؟
**
وحدّثانا بلهجتهما الواحدة
عن بلدهما اللطيف الفريد
ووصلت على آذاننا تناوبات أصوات
جرسُ كنيسة ونداءات ومؤذّن
**
"أتذكُرُ يا جنكيز!"، صرختُ غير مرّة
مستحضرًا لبنان الذي كان
عندما وصلنا إلى بيت جنبلاط
وعلى شرفنا ذبح الخراف
**
وغطّت قمم الجبال ثلوجٌ فضّية
وكانت سفوحها مسالمة آمنة
وكان الأمنُ ممسوكًا، كثورٍ من قرنيه،
في دولةٍ رأس حكومتها كرامي
**
لكنّ نجمًا خبا في الظلام،
واستمرّت تلك اللحظة القاسية أبدًا
اغتيل جنبلاط – صديقنا –
ولم تعد بيروت كما كانت
**
حيث كان اليهود والعرب
يحيّون بعضهم البعض – سلامًا بسلام
ولمْ يلجأوا إلى السلاح والنّار
بل عاشوا وتجاوروا.. لكن ذلك اختفى
**
هنا، حيث بات السوادُ يُغطّي وضوح النهار
وعبر قعقعة أسمعُ صوتًا فلسطينيًا
يسألني عنك: "قل ليْ
هل أتى أيتماتوف معك؟".
**
"لم يستطعْ هذه المرّة – أجبتُ الصوت –
هو يكتب الآن على ضفاف إيسكول".
وفجأة أرى فتاة شائبة في مقتبل العمر
تركض مبتعدةً بين زخات الرصاص
**
هنا حيث يخرج الدخان من شقوق الجدران
الحربُ تُغنّي بصوت خفيض،
مذهولةً بحزن جارف
تهزّ مهود أولادها القتلى
**
فوق كل سطرٍ أكتُبُهُ سأعلّق حزني
هنا، حيث كنّا معًا
وفي قلبي اليوم يا جنكيز
أحملُ حُصّتَك من الألم
**
من الرابحُ هنا – قلْ لي وحلّلْ
أي إرادة شيطانيّة حلّت
ليتبادل لبنانيان النار
أحدهما بصليبٍ وآخر بعمامة؟
**
يتسابقون إلى المعركة عند الإشارة
وكلّهم في العناد سواء،
ينسون أن محمّدًا بجّل المسيح،
وكذلك لم يرفضه إبراهيم.
**
وإذا ما اخترقت صدري رصاصةٌ هنا
وكان جرحها قاتلًا
أنا أعلمُ، يا جنكيز، أنّ الطريق ستقودك
على الفور إلى عاصمة لبنان
**
أتعرفُ، لقد رأيتُ بيروت الشاهدة
في الأمس في منامي غير مقسّمة،
والأولاد، كلّ الأولاد تحت قوس قزح
يتعانقون معًا.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها