الأحد 2017/08/27

آخر تحديث: 17:47 (بيروت)

رحيل خليل سركيس.. الشخصاني الوجودي وسليل العائلة الصحافية

الأحد 2017/08/27
رحيل خليل سركيس.. الشخصاني الوجودي وسليل العائلة الصحافية
دفعت الحرب برامز سركيس الى الهجرة "من زقاق البلاط إلى كنسنغتن"
increase حجم الخط decrease
رحل الكاتب والأديب اللبناني خليل رامز سركيس في لندن عن 96 عاماً، وهو سليلُ أسرةٍ يدينُ لها لبنان الصحافة والأدب واللغة بالكثير الكثير. ومترجم "اعترافات" جان جاك روسو، و"فيلسوف الكلمة" بحسب بعض محبيه، توزَّع نتاجه بين الفلسفة والإيمانيّات والترجمة والسيرة والهواجس والخواطر... ورأى المطران جورج خُضر في أَدبه "العربيةَ مُتَنَصِّرةً" واعتَبَرَهُ "من أَكْتَبِ العرب صيغةً"، وتقول الباحثة الجامعية باسكال لحود "تناول سركيس موضوعات وجودية وميتافيزيقية هي في صلب التساؤل الفلسفي. أسلوبه يفرد موقعا حاسما للغة، وهو ما قد يدفع بالكثيرين إلى اعتباره أديبا وحسب، إلاّ أن الأسلوب الفلسفي طرح فلسفيّ، ثنائيّة البرهان والأسطورة عند أفلاطون، اعتماد الاستعارة عند برغسون، أو انتهاك اللغة عند ليفيناس... كلّها تعبيرات عن مواقف فلسفية. من جهة ثانية، فلسفته مطبوعة بإيمانه، لذا يعتبر بعض الغلاة أنها لذلك تحديدا ليست بفلسفة. لكن لا فلسفة – ولا علم – من دون مسلّمات تنطلق منها، ولا يقاس خصب نظرية فلسفية ولا جدّتها بماهية مسلّماتها، بل بمدى عبقرية الفيلسوف في تبيّن مسلّماته أوّلا، وفي احترامها ثانيا، وفي استيلادها نتائج كانت كامنة فيها"..

وكرمت الجامعة الانطونية سركيس لأنه "فيلسوف متّسم بالشخصانية والوجودية المسيحية والأوغسطينية، لكن هذه التأثرات لا تنفي عن فلسفته قوامها الخاص وفرادتها. فهي تتميز بمعالجتها موضوعات فلسفية كبرى بسياقية تجعلها مرتبطة عضويا بلبنان، سواء تعلق الأمر بموضوعاتها ودوافعها الشديدة اللصوق بالسياق اللبناني والمأساة اللبنانية، أو بالحضور شبه الهوسي لموضوع الآخر فيها، أو بأبجديتها الرمزية". وهو كان يعتبر الكتابة، "مثل التنفس، فلو انقطعت عنها لاختنقتُ. من أجل الكتابة تخليت عن الكثير الكثير، فلم يكد يعوّقني عنها شيء. الكتابة حياتي، محررتي من تسلط الدهر غابراً وحاضراً الى مستقبل أيام. هذه الثلاثية الزمنية أحاول أن أبني على معطياتها كياناً لي متحاور العناصر في تجاوب لها ونتائج".


 وُلد سركيس سنة 1921 في بيروت، في حي زقاق البلاط. درس في جامعة القديس يوسف والجامعة الأميركية في بيروت. جدّ أبيه لوالدته المعلم بطرس البستاني. وجدّه خليل خطار سركيس انشأ جريدة "لسان الحال" البيروتية في العام 1877، وأنشأ المطبعة الأدبية، أما والده رامز سركيس الذي ورث عن أبيه "لسان الحال" من 1919 الى 1941، وبحسب دار "الجديد" ناشرة كتبه "والدُه ورث الجريدةَ والمطبعةَ وأورثهما لخليل الذي درس على الطريقة القديمة على يد خطّاط وأستاذٍ خاصّ قبل أن يلتحق بالمدرسة فالجامعة. تولّى خليل رامز سركيس، لمّا انشغل والده بالنيابة وبوزارة التربيّة الوطنيّة، رئاسة تحرير الجريدة المسائيّة الطليعيّة التي استكتبت أيّامذاك أهمّ أقلام عصرها، كما انكبّ على التأليف والترجمة". وكان المستشار الأدبي لـ"الندوة اللبنانية.... وكان تحت مظلة الفكر الشيحاوي(نسبة الى ميشال شيحا) وألف عنه بعد رحيله كتاباً بعنوان "صوت الغائب"، نشرتْه "الندوة اللبنانية" سنة 1956.

دفعت الحرب اللبنانية برامز سركيس الى الهجرة "من زقاق البلاط إلى كنسنغتن"، وخلال هذه المرحلة كان لبنان يشهد تحولات سياسية وديموغرافية وعمرانية وثقافية، وفي مقابلة خاصة معه قال: "قبلما هاجرتُ إلى لندن سنة 1979، كنتُ أُقيم مع الأسرة في بيروت، بشارع سبيرز (الصنائع). وكانت إقامتنا العائليَّة، قبلئذٍ، في زقاق البلاط حيثُ وُلدتُ سنة 1921، وحيث وُلد أَكثرُ أفراد الأُسرة، مِن جيلها السابق إلى بعض جيلها اللاحق، وما بينهما من فروع الانتشار في مشارق المهْجر ومَغاربه.
زرتُ بيروت سنة 2006، أَوَّل مرّة، بعد غيابي عن لبنان ما يزيد على ربع قرن. فذهبتُ إلى زقاق البلاط أريد أَن أتفقَّد البيت الذي فتحتُ فيه عيني على الحياة، فلم أَجده، ففوجئتُ إذ رأَيتُ أَنْ قد حَلَّتْ محلَّه على تمامِ أَرضه بنايةٌ شاهقة متعدّدة الطوابق، ذاتُ نوافذ متجاورة وشرفاتٍ ضيّقةٍ نُشِرتْ على بعضٍ منها "بَيارقُ" غسيل مختلف الأَشكال والأَلوان، في عشوائّية لا اكتراثٍ مُباحِ التصرّف، مُطلَقِ الضجيج. فكان الجوّ، هناك، بعيدًا عن حضارةِ البيت الذي ابتناه جَدّي خليل سركيس سنة 1868 وأَتمَّه أَبي رامز سنة 1920، والذي كان مؤلَّفًا من طابقَين يطلاَّن على حديقةٍ مُزهرة عند مَدخل بيتنا، ويطلاّن، من ناحيته الخَلْفيَّة، على بستانِ شجرٍ ذي ثمرٍ وعلى برْكة يسبح في مائها سمكٌ أَحمر. ولا يفوتني، ههنا، أَن أَتذكّر سقْف القرميد وكأنه طربوش البيت!
وكان في أَبرز ما شعرتُ به، فضلاً عمَّا تقدّم لي اختصاره، هو أَن التنوَّع الثقافيّ الذي عُرفتْ به بيروت، في مراحل من القرنين التاسع عشر والعشرين، قد غيّر مكان إِقامته، يومَنا هذا، في مثْلِ تبادلٍ سكانيٍّ عفويٍّ في أَحيان، ولا عفويٍّ في أَحيان أُخرى. وإذا كنتُ لم أَستغرب سلبيّةَ هذا التبدل المتبادَل، فقد أَسفت له أَسفي على أَصالة المساكَنة التي يبدو لي أَنها تلاشت، في الأغلب، لا في روح بيروت فحسبْ، ولكنْ، أَيضاً، في سائر محافظات لبنان، على تعدّدِ مشاربه واختلافِ مذاهبه بحسب ظواهر التعامُل المجتمعيِّ وبواطنه إجمالاً لا من حيث التفصيل، وخصوصاً بعد ما أُقحِمَ لبنان أَو بعد ما أَقحمَ نفسه في سياسة المحاور الإقليميَّة والعالَمَّية، فبات له ممثِّلوه – وأسيادهم – في لعبة الأمم وشطرنج الشعوب"...

وبرغم هجرته كانت مهتما بلبنان يقول في حوار نشر في جريدة "الحياة": هاجرت، لكن لم أهجر. كل لحظة أنا في لبنان، في صميم قضاياه ومعطياته. لا مؤمَّلاته تغيب عني ولا المهددات. لبنان وطني وغربتي معاً. لا ازدواجية بموقفي هذا ولا انفصام. أما كيف أقضي أوقاتي في لندن، فكما كنت أقضيها، بنحو ما، في حرية بيروت قبل الحرب: حياة قراءة وكتابة وما إليهما وما عنهما من شؤون الثقافة يُسراً وعسراً وبين بين، ذلك مع المراعاة لفوارق السن والزمن والمكان. وأما الذكريات، لا الحلوة وحدها، بل أيضاً الذكريات المُعلقَمة، فقد أوردتُها في كتابي "الهواجس الأقلية/ من زقاق البلاط الى كنسنغتن" (منشورات دار الجديد، بيروت 1993)، ولا مسوِّغ، هنا، للتكرار".


لطلما عرف عن خليل سركيس شغفه باللغة العربية وتدقيقه في الفتحة والضمة والقواعد، وهو "الناثر الذهبي"، الباقي من مدرسة النثر اللبناني الكلاسيكي، امثال فؤاد سليمان وأنسي الحاج... وضع مجموعة من المؤلفات من بينها: "من لا شيء، أيام السماء، وصية في كتاب، أرضنا الجديدة، مصير، جعيتا، بعلبك، هواجس الأقلية، زمن البراكي، بعل بك، زواج مدني، أسير الفراغ"، وكان سركيس قد تخلى عن ترجمته لكتاب (الاعترافات) لجان جاك روسو لأن الطبعة التي صدرت عن المنظمة العربية للترجمة تتضمن كثيراً من الأخطاء. بعض مؤلفاته ترجم الى لغات عديدة منها الفرنسية والانكليزية، والاسبانية والبرتغالية والإيطالية.
 
  
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها