الجمعة 2017/08/25

آخر تحديث: 13:56 (بيروت)

أليس السوداء في بلاد الفوضى المنظمة

الجمعة 2017/08/25
أليس السوداء في بلاد الفوضى المنظمة
لا يوجد في رواية أليس الأصلية ما يوحي بلون بشرة بطلتها
increase حجم الخط decrease
على بوابة بلاد العجائب كان علينا ترك حقائبنا وهواتفنا، فالدخول إلى العرض التفاعلي "مغامرات أليس تحت الأرض"، كان يقتضي أن نترك عالمنا في الخارج، قبل أن نهبط إلى شبكة من الممرات والقاعات تحت محطة مترو أنفاق "واترلو" اللندنية.

يتتبع العرض الذي يتطلب مشاركة الجمهور في أحداثه، الفصول الاثني عشر لرواية "مغامرات أليس في بلاد العجائب"، لعالم الرياضيات الإنكليزي لويس كارول، لكن تورط الجمهور كان محكوما بسلسلة من الخيارات الشخصية وضربات الحظ. فبمجرد دخولنا إلى القاعة الأولى، كان على كل من المشاركين الـ56 أن يختاروا ما بين بابين لبدء مغامرتهم، وبعدها وزعت علينا أوراق اللعب، لينقسم الجمهور إلى أربعة مجموعات بحسب شعارات أوراقهم، القلب الأسود والكاروه والقلب والترفيل، كل منهم إلى طريق مختلف، متتبعين أربعة مسارات لحبكة القصة التي يعيد العرض قراءتها على أنه تمرد على حكم ملكة القلوب وقرارها بإلغاء الهراء من أرض العجائب، واستعادة المنطق والنظام.

كان من نصيبي أن أقع في مجموعة المقاومة السرية، التي تسللت إلى مطبخ المملكة، بهدف مغافلة الطاهي لأكل كعكة الفواكه المعدة للاحتفال بعيد ميلاد الملكة، ومن ثم التورط في سلسلة من المغامرات لبث الفوضى، ومناكفة المنطق في المملكة. انتهى الأمر بنا، كما في الفصل الأخير من الرواية الأصلية، في قاعة المحكمة، حيث اجتمع شمل المجموعات الأربع مرة أخرى، لا لتوحيدنا كما ظن بعضنا، بل للكشف عن عقد الولاء والخيانة التي تورطنا فيها جميعا. فأصحاب أوراق القلوب، الذين ظلوا على ولائهم للملكة ولمنطق النظام، كانوا قد تتبعوا مجموعتنا المتمردة وتجسسوا علينا من وراء الأبواب، ليقدموا في المحكمة دليل إدانتنا، لينتهي الأمر بمجموعتنا إلى حكم الإعدام. لم تكن العقوبة القاسية صادمة، بقدر ما صدمني أن أرى صديقيّ اللذين وجها إليّ دعوة إلى العرض، وهما يشيران إلينا بأصابع الاتهام من الجانب الأخر من القاعة، وعلى وجهيهما ابتسامات الانتصار والتشفي. لكن الضغينة بيننا سرعان ما زالت، فقبل انفضاض الجلسة، تظهر فجأة الفتاة السوداء التي كانت صورتها تظهر لنا على طول الطريق في المرايا متسائلة عن اسمها الذي لا تذكره، لتواجه ملكة القلوب، والتي كانت تقوم بدورها ممثلة سوداء أيضا، ولتستعيد هويتها المفقودة، متذكرة أنها أليس نفسها، وأنها والملكة نفس الشخص لكن في عمر النضج. تتصالح الطفولة بالبلوغ، والنظام بالفوضى، بعد أن تدخل الملكة إلى المرآة وتختفي مع أليس الصغيرة.

بعد العرض، وفي طريقهم إلى الخارج لالتقاط حقائبهم وهواتفهم، تبادل الجمهور رواية خبراتهم الأربع المختلفة التي تورطوا فيها بحكم خياراتهم وضربات القدر العمياء، كما تبادلوا اللوم على خيانات صداقتهم بعضهم لبعض في المحكمة، التي تورط فيها البعض بحسب أصول اللعبة. لكن وإن غادر الجميع بأسئلة عن زوايا رؤيتنا للعالم وخبرتنا به بحسب مواقعنا فيه، وعلاقات الخضوع للسلطة والتمرد ضدها، وصراعات النظام في مواجهة الفوضى، والبراءة في وجه قسوة البلوغ، فالأمر لم يكن لعبة تماما. فأدوارنا في أرض العجائب، وإن كانت تبدو خاضعة لحكم الصدفة وتبعات الاختيار الفردي، فإنها محكومة، كما في العالم الحقيقي بالخارج، بانساق محددة سلفا، وبتوجيهات الممثلين، السلطة الحقيقية في العرض. حتى في جماعتنا المتمردة ضد النظام، كان علينا أن نخضع لنص محدد لإثارة الفوضى، لا نملك الخروج عليه.

لم يكن تدجين الفوضى في النظام، أو تأطير التمرد في نظام للطاعة، الاطار الوحيد لاعلان السلطة. فالممثلون الذين كان عليهم إعادة أداء أدوارهم 36 مرة في اليوم، فيما واجهوا أي محاولة لخروج على النص من قبل الجمهور بحزم فظ واستعجال لهم بالحركة قدما في حالة التلكؤ، كانوا بدورهم خاضعين لنظام قاس ومجهد من آليات إنتاج الترفيه المحسوبة بدقة الزمن والمكسب.

لا يوجد في رواية أليس الأصلية ما يوحي بلون بشرة بطلتها، وإن كانت صورا فوتوغرافية تنشر لأول مرة هذا الأسبوع في الغاليري الوطني في لندن، للطفلة أليس ليدل، التي ألهمت لويس كارول عند كتابة روايته تخبرنا أنها بيضاء، مؤكدة صورتها التي نعرفها عنها من المعالجات السينمائية والتلفزيونية المتعددة للرواية. لكن اختيار مخرج العرض لممثلتين من أصول أفريقية وكاريبية لاداء دوري أليس وملكة القلوب، بالرغم من حسن النوايا المتضمن فيه، إلا أن منطقه لا يخلو من أسباب لعدم الارتياح. فقلب عملية "التبييض" الهوليودية التاريخية، أي قيام ممثلين بيض بأدوار أبطال من أثنيات أخرى، كالهنود الحمر والأفارقه والآسيويين والعرب وغيرهم، أصبحت عرفا فنيا في بريطانيا في العقدين الماضيين، حيث يقوم ممثلون من أصول أثنية مختلفة بلعب أدوار البطولة في مسرحيات هاملت، والملك لير وغيرها بل وحتى كان هناك فكرة لأن يقوم ممثل أسود بدور جيمس بوند. لكن وإن كانت عملية "تسويد" أليس وملكة القلوب وغيرهم من أبطال السرديات البيضاء، المعني بها إتاحة الفرصة أمام الفنانين من خلفيات أثنية مختلفة للولوج إلى عالم الأضواء، وتغيير الصور الذهنية المهيمنة للمركزية البيضاء، لطالما انتقدت بسبب رسالتها السياسية الزاعقة التي تفسد الفني أحيانا، ومعضلتها الحقيقية تكمن في تعميتها على أوضاع الأقليات في الواقع، وكذا فرضها مركزية بيضاء من الباب الخلفي. فبين حضور عرض أليس، لم يكن هناك شخص أسود واحد، وباستثنائي أنا وامرأه لها ملامح أسيوية، كان الجمهور من البيض، فتكلفة تذكرة العرض الباهظة، لا تبدو في متناول الكثير من أبناء الأقليات ولا حتى للبيض من الطبقة العاملة. أما عن ممثلتي العرض، فكان عليهما التماهي مثل غيرهم مع رواية أليس الفيكتورية، تاركين خلفهم قصص وأساطير وتراث أصولهم الأفريقية والكاريبية منسية كما هي.

هكذا فكما يبدأ العرض بوعد بمغادرة العالم الحقيقي وتقاليد المسرح التقليدي، إلى عالم من مغامرات الخبرات المتناقضة لأرض العجائب وألعاب الإبداع التفاعلي، فإنه ينتهي بفوضى محكومة بالنظام وتمرد مصاغ داخل السلطة والخضوع لها، وترفيه مغموس في آليات الإنتاج، وصورة للتنوع الاثني والاندماج متماهية مع منطق المركزية البيضاء وهيمنتها، طارحا، دون قصد، سؤالاً هو الأجدر، عن إمكانيه الفرار من عالم الواقع، ومقاومته، ولو حتى في ألعاب الخيال؟
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها