الخميس 2017/08/24

آخر تحديث: 15:55 (بيروت)

ثورة النساء على النساء

الخميس 2017/08/24
ثورة النساء على النساء
لانا لوكتيف نموذج الخصم المتبرج، في فستان الدانتيل وحذاء الكعب العالي (عن موقع NPR)
increase حجم الخط decrease
ماذا يحصل في أميركا؟ لا بدّ من إجابة أوفى من: دونالد ترامب وبيته الأبيض.
محاولة الفهم، تفضي، في ما تفضي، إلى أننا ربما نشهد ولادة ثقافة جديدة في العالم الجديد. ثورة تطل برأسها. فالنكوص أيضاً ثورة. في مجتمع تمكّن، بعد نضال مديد ومرير ومُكلف، من تكريس الحرية والتسامح والمساواة، باعتبارها روافع المتن الثقافي والقانوني والاجتماعي، فإن استدعاء الهوامش إلى نقض الثوابت المبدئية هذه والتي تجاوزت الجدل – منذ زمن – إلى عقد اجتماعي متوافَق عليه، مع التمكين المتزايد للهوامش المناهضة للقيم الأساس، تحوز خصائص الثورة. ثورة من أجل التخلي عن مكتسبات بدلاً من مراكمتها. ثورة من أجل إعادة اكتساب "الطبيعة الأصل"، ليس بالمعنى العرقي والسياسي والحضاري لـ"التفوق الأبيض" فحسب، بل أيضاً بالمعنى الجندري.

القضية خطيرة. تجاهلها، وصرفها كظاهرة محدودة وعابرة، خطأ جسيم. أحداث شارلوتسفيل ليست سوى رأس الجبل الجليدي. و"الطمأنينة" الآنيّة التي بثتها صُور بوسطن، قبل أيام، إذ أظهرت فوارق عددية مذهلة بين تظاهرتَي اليمين المتشدد ومناهضيه، ربما تكون مضلّلة، وإن أبقت باباً مفتوحاً على الأمل في قوة باقية لمنجزات الثقافة الغربية.. لكن إلى متى؟ فالنساء أمام تحدٍّ جدّي، ليس في أميركا وحدها، بل في العالم بأسره. ما عاد "الخصم" محصوراً في صورة شوارب سميكة، وأكفٍّ غليظة تقبض على أعناق القوانين والأعراف ومعاني الأنوثة. بل بات متبرجاً، يرتدي فساتين الدانتيل وأحذية الكعب العالي: "لانا لوكتيف"، فلنحفظ هذا الاسم الذي لا بد من العودة إليه بعد تمارين سريعة لإنعاش الذاكرة.

تتوافق الغالبية من علماء التاريخ والاجتماع على مرور الحركة النسوية في العالم بموجات أربع: الأولى (من القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين)، تأثرت بمنجزات عصر الأنوار والثورة الفرنسية وتمحورت حول حق النساء في التصويت والمُلكية. الثانية (بين الستينات والثمانينات من القرن العشرين)، انطلقت – للمفارقة – من الولايات المتحدة، وانشغلت بمفاهيم الجنسانية والعائلة، والثقافة السائدة في أماكن العمل، والحقوق الإنجابية، والعنف المنزلي، والاغتصاب الزوجي، لتنتهي إلى جدلية نسوية – نسوية عُرفت باسم "حروب الجنس" التي قامت على أسس متباينة في ضمّ/إقصاء عناوين من قبيل البورنوغرافيا والإيروتيكا والبغاء والمثلية الجنسية للنساء. إضافة إلى صراعات ايديولوجية وحقوقية لا يستهان بها حول النساء المتحولات جنسياً، والممارسات الجنسية من نوع السادية-المازوشية، وذلك بين من اعتبرنها مهينة للنساء تكرّس استعبادهن جسدياً ونفسياً، وبين من أصرّين على الدفاع عنها كحق في ذائقة جنسية مختلفة. أما الموجتان الثالثة (من تسعينات القرن العشرين) والرابعة (من 2008) فمستمرتان ومتوازيتان. تركز الموجة الثالثة على التقاطعات بين الجندرية وبين الطبقات الاجتماعية والإثنيات والأعراق والميول الجنسية والديانات والإحتياجات الخاصة العقلية والجسدية، باعتبارها سلّة هوياتية متكاملة، وباعتبار أن الإحجاف والتمييز لا يمكنهما أن يصيبا مستوى واحداً وحيداً من الهوية، أي الأنوثة، بل يقعان في وسط السلّة ويتغذيان من كل ما فيها. نسوية الموجة الثالثة أكثر اشتمالاً على حقوق المغايرة الجنسية والنساء الملوّنات، أميَل إلى مقاربة الهوية الفردية، منها إلى المطلبية من أجل تغيير سياسي. في حين أن الموجة الرابعة تبدو مطبوعة بطبائع الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، والتي خلقت "ثقافة الندهة" (call out)، حيث يُواجه خطاب التمييز الجنسي وكراهية النساء بشكل مباشر وبسهولة نسبية. وهي النسوية المعنية بسياسة المايكرو (الأفلام والإعلانات والأدب والإعلام الخ..). كما ذهبت أبعد بمفهوم التقاطعات، لتعتبر التضامن مع حركات العدالة الاجتماعية عموماً من صلب وظيفتها، ولذلك لا ترتاح حتى إلى مفردة "النسوية" التي تعتبر أنها تضمر دوماً ثنائية نساء/رجال، وبالتالي تضيق بها آفاقها وصورتها عن نفسها.

من كل ما سبق، تستفيد الثورة المضادة الصاعدة اليوم في أميركا.

عودة إلى لانا لوكتيف، وهي روسية أميركية، وتملك وزوجها سويدي الأصل شركة إعلامية باسم "Red Ice" باتت منصة لما يمكن أن يقوّض إنجازات استغرق تحقيقها أكثر من قرنين من الزمن!

تُطوِّع السيدة لوكتيف، وما/مَن تمثّل: حرية التعبير، المناصرة الالكترونية وتحويلها إلى تيار، انتشار الإعلام الاجتماعي، القدرة على إعلاء صوت نسائي يخالف السائد (ولو بالكراهية ونقض الحقوق المكتسبة)، حق المرأة في التصويت "لمن يعيد لها أنوثتها"، حقها في الملكية والعمل والتواجد الفاعل والتغييري في الفضاء العام، حقها الإنجابي كي لا تكون أكثر من مُنجِبة، حقها في فرصة مساوية للرجل في العمل والراتب كي لا تعمل ولا تستقل اقتصادياً، التقاطعات بين الجندر والهوية لنبذ كل هوية "أخرى" غير منتمية إلى "الحضارة البيضاء"، والتمرد على "الرقابة" على طريقة أن من يُحذف حسابه(ها) من "تويتر" مثلاً بسبب مفردات تحريضية، يلجأ إلى منصة أخرى مثل Gab حيث "الرقابة الوحيدة المشروعة هي خيار الفرد في الانسحاب طوعاً". إضافة إلى إعادة امتلاك تعابير مثل "العار" و"الذّنْب"، ليس من أجل تحرير الفرد من مغبة التعصب والأحكام المسبقة المرتبطة بالجنس أو اللون، بل من أجل النقيض الكامل: "التخلص من الإحساس بالذنب بسبب البشرة البيضاء"، ونفض "العار" عن "الإيمان بالأنوثة الأولى والإرث العرقي".

لوكتيف، التي تقدم برنامجاً إذاعياً خاصاً بها عبر الانترنت، حيث تستضيف نساء "نادمات" على ايمانهن بـ"نسوية خذلتهن"، وأخريات "يشعرن كمَن ارتوين بعد ظمأ مزمن إذ وجدن أنهن لسن وحيدات في أفكارهن وأنه لا داعي للخجل من تلك الأفكار"، وبعضهن يؤمن بأن "النسوية أفسدت ما تعتبره النساء جوهر رغباتهن"، هي نموذج لآلاف النساء اللواتي قررن إعلاء أصواتهن بأفكار من نوع:

"الرجال يريدون الخروج لجني المال ثم العودة إلى البيت ليجدوا الحب والاحترام، فيما النساء يرغبن في الحماية".

"الجنسان ليسا متساويين، لا فيزيائياً ولا غير ذلك، لكنهما متكاملان، الرجال أقوياء وعقلانيون، والنساء مَرِنات وعاطفيات، الرجال يبرعون في السياسة، والنساء في رعاية العائلة، الرجال يتخذون القرارات، والنساء يقدمن المشورة، بقاء العرق الأبيض يعتمد على الجنسين معاً وعلى براعة كل منهما في دوره".

"لا للزواج المختلط.. رحم المرأة البيضاء مِلكٌ للرجال البيض".

"لا يمكن السماح للنساء بصناعة السياسة الخارجية، ليس لأنهن ضعيفات، بل لأن انتقامهن لا حدود له".

"الرجال الملوّنون والمهاجرون خطر داهم على النساء البيضاوات".

"تركني زوجي بعد ولادة طفلي لأني لم أقدّم له الاحترام الكافي".

لوكتيف تنادي نساء اليمين، تناشدهن الانضمام لأن "القضية" لن تنتصر من دونهن. افتقدتهن أحداث شارلوتسفيل، وتظاهرة بوسطن كانت لتبدو أكبر وأعظم بوجودهن.
كم هو مخيف إن كانت هذه هي الموجة النسوية الخامسة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها