الثلاثاء 2017/08/22

آخر تحديث: 21:15 (بيروت)

جدّة إيمانويل ماكرون ملهمته قبل زوجته

الثلاثاء 2017/08/22
جدّة إيمانويل ماكرون ملهمته قبل زوجته
حين يغادر الاليزيه سيكون مؤهلا لتحقيق طموحه الأصلي.
increase حجم الخط decrease
"إيمانويل ماكرون؟ ذاك المتحول قليلا". والمتحول صفة أطلقها عليه الروائي ميشال أولبيك الخبير في هذا المجال. وكان صاحب كتاب "جزئيات أولية" قد سئل عن رأيه في كانون الثاني 2017 في هذه المرشح للرئاسة الفرنسية الذي لم يكن أحد يعرف كيف وصل الى هذا الموقع، فأجاب بارتباك: "غريب، لا يعلم أحد من أين جاء"، ثم تابع: "حاولت أن أجري معه مقابلة... بصراحة، من الصعوبة بمكان أن تنتزع كلاماً ما، أو حقيقة ما، من الاشخاص البارعين في الكلام". 

تعتبر الصحافية آن فولدا صاحبة كتاب "إيمانويل ماكرون، من الظل إلى الرئاسة"(*) أن أولبيك مصيب، فوراء مظهر ماكرون المرح والجذاب، واجهة ناعمة لتكنوقراطي تدرج في أرقى مدارس الجمهورية، يتعذر الامساك به، أخذ يبرز شيئاً فشيئاً في وسائل التواصل والاقتصاد ثم الرئاسة، وهو بحسب فولدا "ترعرع في أحضان جدّة منحته الحب المتطلّب فنمت بينهما روابط فريدة. وبالعناية التي منحته إياها، ثم بعناية بريجيت، تحوّل إلى رجل لا يقهر". والحال أننا قرأنا الكثير عن علاقة الرئيس الفرنسي بزوجته بريجيت باعتبار أنها بعمر والدته، لكن الكثير من الأمور المهمة بقيت مهمشة في الاعلام، كونها طبيعية ولا تتخطى المألوف. فالرئيس المعجب بالفليسوف بول ريكور والذي يهوى سماع ليو فري، امضى طفولته بين الكتب، "في شبه عزلة عن الناس"، "يحيا من النصوص ومن الكلمات". طفولته "تجاوزت فيها دروس الأدب السرية الحميمة المظاهر لتمنح العالم، الذي لا نلامسه إلا لماماً في أيامنا العادية، عمقه كله كما ذكر في كتاب ثورات". وكان له في تلك الطفولة اكثر من دليل خاص، كوليت التي تعلم منها ما الهر وما الزهرة، ومن جان جيونو "ريح الريف الباردة وجقيقة الطباع"ـ واندره جيد وجان كوكتو "كرفيقين لا يستبدلان". 


 واللافت أن مانيت جدة ماكرون كانت صانعة في حياته قبل معلمته بريجيت، تلك الجدة التي آمنت به، وتوقعت له مصيراً خارجاً عن المألوف. نمت لديه ذائقة الادب والشعر، ودفعته الى اكتشاف شعراء وكتاب من بينهم رينيه شار..".  ان جدته مانيت هي التي اكتشفته، وكانت في الوقت نفسه بمثابة ملهمته الروحية الأولى في ذلك الوقت المبكر من العمر، بل وحتى في الفترات اللاحقة. هذه الجدة التي يستمتع لديها بتذوق الشوكولا الحارة، فيما يستمع الى شوبان". وصرفت ساعات الطوال على تعليمه القواعد والتاريخ والجغرافيا، كما علمته أن يقرأ قربها بالصوت العالي، موليير وراسين وجورج دوهاميل الكاتب شبه المنسي الذي كان تحبه، ومورياك وجان جيونو. والداه أيضا كانا قارئين جيدين، وخصوصا والده الذي ساعده على تعلم اليونانية واكتشاف الفلسفة. ثم هناك الرحلة التدريبية التي نفذها، كما كثيرون قبله، حين انتقل من السادسة عشرة إلى باريس، كما كثيرون قبله، التي اتاحت له سلوك دروب شخصيات فلوبير وهوغو. وهناك لقاؤه ببريجيت معلمة اللاتينية والفرنسية، التي تصف نفسها بأنها "من المغرمين المتيمين بالقرن التاسع عشر"، والتي أشتغلت على الروايات الأولى لكريتيان دو تروا(أحد مؤلفي روايات الفروسية)، وتعرف عن نفسها بأنها "مفتونة بكتابات فلوبير". امرأة تقرب منها بفضل المسرح أي بفضل الكلمات. التقى الاثنان حين كان ماكرون يقوم بدور البطولة في مسرحية "جاك وسيده" لميلان كونديرا. وتطور حب ماكرون الذي كان لم يزل افلاطونيا لمعلمته المتزوجة من خلال لقاءات خاصة بذريعة تعديل مسرحية للكاتب ادوارد دي فيليبو. وقال ماكرون انها شجعته في طموحاته الأدبية. 


والمحطة البارزة في حياة ماكرون فشله في امتحان القبول في المدرسة العليا للأساتذة التي تخرج فيها سارتر ودي بوفوار. وكان ذلك الفشل اشارة إلى أن مستقبله كروائي انتهى فانتقل الى دراسة الفلسفة في معهد الدراسات السياسية حيث قدم رسائل أكاديمية عن ماكيافيلي وهيغل وكان مساعد بول ريكور، ووفق بعضهم كان عضوا في المجلس العلمي لصندوق ريكور، ومساعد نشر كتاب "الذاكرة، التاريخ" النسيان"، وهو تقرّب "يكسبه نفعاً رمزياً مبالغاً فيه تماماً".

وثمة أيضا علاقته الهوسية بالكتاب "لم يقدم يوما هدية سوى كتاب،  في ذلك المسعى استعاد ماكرون رصيده الأدبي، وجاء الكثير من خطاباته مطعما باقتباسات لكثير من الكتاب والشعراء أمثال كامو، أندره جيد، وراسين، رامبو، وروني شار. وابرز اقتبساته عن الاخير: "وانفصلتْ عن شحوبي ابتسامة تقول: أنا موثقة الى هذه الكائنات بألف خيط متين وما من واحد منها سينقطع. أحببت أشباهي هذا اليوم حبّاً جنونيّاً، أبعد بكثير من التضحية. نعم، أنا أحبكم هذا اليوم حبّاً جنونيّاً أيها الأصدقاء"... استعان ماكرون بمقتطفات من شار على طريقة بومبيدو الذي استشهد بأبيات لبول ايلوار. وفي عز السباق نحو قصر الإليزيه، قال في أحد الحوارات الصحفية “كما أن للكاتب رؤيةً وأسلوباً فإنه يتعين على المرشح للرئاسة أن يمتلك رؤية وأسلوباً. أيضاً من المغرمين بالدراسات التاريخية، ويعبر عن ذلك بشكل خاص تعلقه بمتحف اللوفر. وبقي الجموح في الحديث عن علاقة ماكرون بالأدب والفلسفة فوصفه أحد المستشارين بأنه ريكور ولفيناس مجتمعين. هو لفيناس الوجه، وريكور الوعد. هو يفكر في أن المعنى الأسمى للتطور مرتبط بالثقافة. الثقافة أن تكون أكبر من ذاك. أنها نقيض الاكتئاب".

قيل الكثير في "أسطورة" ماكرون وصعوده السريع الى الرئاسة الفرنسية، وبقي الكثير من الإقوال في إطار الدهشة، وبعد مئة يوم من وصوله الى الرئاسة بدأت الأمور تتوضح، غابت الهالة الأدبية والفلسفية وبدأت الواقعية السياسية، ربما أبرز ما قيل لماكرون في هذه المرحلة، جاء في رسالة مفتوحة وجّهها اليه المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند، تساءل فيها: "هل قرأ التلميذ السابق في الفلسفة ومساعد بول ريكور، قليلاً، كتب تاريخ، إلى درجة تجاهل كون عدد من اليهود ومن المنحدرين من أصول يهودية، عارضوا الصهيونية، بشكل دائم، من دون أن يكونوا معادين للسامية؟"، وختم رسالته: "أنا مواطن راغب في أن تكون الدولة التي أقيم فيها جمهورية إسرائيلية وليست دولة طائفية يهودية. وباعتباري أنحدر من يهود عانوا من التمييز، لا أريد أن أعيش في دولة، تجعل مني، وفق التعريف الذي تمنحه لنفسها، مواطناً متمتعاً بامتيازات. فهل يجعل هذا، في رأيكم، سيدي الرئيس، مني معادياً للسامية؟".

وماكرون الذي لا يضع شيئا فوق الكتابة، في سن السادسة عشرة كان على اقتناع بأن الأدب هو "مهنته الوحيدة"، وكتب في شبابه ثلاث روايات: رواية رسائلية عن حضارة الأزتيك(رفضت من دور النشر) وقصة حب ورواية عن عازف بيانو يلعب مع الزمن الى جانب كتابة الشعر. وكان يعتزم ايضا كتابة رواية كبيرة بطلها صعلوك ولا يُعرف إن أنجز كتابتها. وتوقع مراقبون ان ماكرون حين يغادر الاليزيه سيكون مؤهلا لتحقيق طموحه الأصلي في كتابة الرواية.

(*) صدر عن منشورات الساقي بترجمة أنطوان سركيس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها