السبت 2017/08/19

آخر تحديث: 13:41 (بيروت)

محفل الفنان المصري

السبت 2017/08/19
increase حجم الخط decrease
عاد الكلام عن "شبح الماسونية"، ومع عودته ظهرت هذه الحركة في صورتها الطليعية الأولى التي تلاشت بشكل شبه كلي في زمننا، إذ تحوّلت إلى "منظمة يهودية سرية تهدف إلى ضمان سيطرة اليهود على العالم"، كما يُقال اليوم بخفة تثير الدهشة. قبل صدور قرار وزارة الشؤون الاجتماعية المصرية بحل جميع المحافل الماسونية والتحفظ على أموالها ومقراتها في ربيع 1964، جذبت حركة "البنائين الأحرار" بشعاراتها التنويرية العديد من كبار رجال الفكر والسياسة، كما جذبت الكثير من نجوم المسرح والسينما، وكان لهؤلاء محفل من محافلها عُرف باسم "محفل الفنان المصري".


كانت الماسونية اشبه بحركة "باطنية" تقوم على شعائر وطقوس محجوبة لا يحق الكشف عنها للعامة، لكنها لم تكن مؤسسة سرية. على العكس، كانت هذه الجمعية القانونية تقوم بعشرات الأنشطة الاجتماعية، وكانت الصحافة تتابع هذه الأنشطة بشكل عادي بلا أي تحفظ. على سبيل المثال لا الحصر، نقلت صحيفة "الاهرام" في 26 أيلول-سبتمبر 1924 خبر انعقاد "الانتخابات في المحفل الأكبر الوطني بمصر"، وقالت ان وفود محافل المدن والأقاليم اجتمعت في مركزها الرئيسي، "وعند الساعة السابعة فُتحت الجلسة، ودخل الناخبون إلى هيكل المحفل، فضاق بهم على اتساعه، وأُجريت عملية الانتخابات طبقاً للتقاليد".

سجّلت الصحيفة نتيجة هذه الانتخابات، ونقلت أسماء الفائزين، من "الأستاذ الأعظم"، و"نائب الأستاذ الأعظم"، و"مساعد نائب الأستاذ الأعظم"، وصولاً إلى "المنبه الأول الأعظم"، و"المنبه الثاني الأعظم"، و"الخبير الأول الأعظم"، و"الخبير الثاني الأعظم" و"أمين الدفاتر" و"أمين الأختام" و"المرشد الأول" و"المرشد الثاني"، وقالت إن انتخاب أعضاء اللجنة الدائمة وأعضاء لجنة النقض والإبرام تأجّل إلى جلسة أخرى. تجدر الملاحظة هنا، أن أسماء الأعضاء الفائزين بهذه المناصب تبدو كلها لمصريين من المسلمين، باستثناء اسم أمين الخزنة الأعظم، وهو إرنست فيروتشي بك.

تتكرّر هذه الأخبار في الثلاثينات والأربعينات، ومنها خبر آخر في "الإهرام" يتحدث عن "الحفلة السنوية للملجأ الماسوني" بحضور محافظ القاهرة عبد السلم الشاذلي باشا، والطبيب الشهير عثمان لبيب عبده، الوزير حسين صبري باشا، الوزير عبدالسلام باشا الشاذلي باشا، وعميد الحالية الإيرانية في مصر الميرزا مهدي رفيع مشكي بك. بحسب هذا الخبر، كان هذا الملجأ يضم 110 أطفال، "يسيرون في تعليمهم على منهج وزارة المعارف، ويُدرّبون إلى جانب ذلك على صناعات التجارة والسجاد والجلود والقش"، وهو تابع للمحفل الأكبر الوطني المصري، ويتولى مجلس ادارته حسين صبري باشا. اشتمل برنامج هذه الحفلة على ألعاب رياضية ومسابقات مسلية عزفت خلالها الفرقة الموسيقية الخاصة بالملجأ الالحان والأناشيد، بعدها وزع المحافظ  الجوائز على الفائزين في المسابقات والمتفوقين في الدراسة وفي الصناعات المختلفة، ثم زار المدعوون أقسام الملجأ، وتوقّّفوا طويلا في معرض خاص ضمّ صناعات يدوية من نتاج أطفال الملجأ.

كان للماسونية المصرية عدد من المحافل، منها محفل خاص بالفنان المصري، ولم يكن نشاط هذا الحفل سرياً كما نتخيّل اليوم. في منتصف حزيران-يونيو 1953، نشرت مجلة "الفن" تحقيقاً خاصاً بنشاط هذا المحفلة، وقالت في مقدّمته: "لأوّل مرة في تاريخ الماسونية، تتسرّب الصحافة إلى القاعات السرية، وتشاهد بعض الطقوس الخاصة من تقاليد هذه الجمعية العريقة. كان ذلك مساء الثلاثاء الماضي، وقد حفلت الدار الماسونية بجمهور كبير من الفنانين الماسون، نذكر منهم يوسف وهبي ومحسن سرحان وفريد شوقي وأحمد كامل مرسي ومحمود المليجي وفؤاد شفيق وعبد السلام النابلسي وحلمي رفلة وحسن رياض ومحمود فريد وعيسى أحمد وعلي رشدي وأحمد سعيد وغيرهم كثيرين". استُدعي أعضاء الحركة لدخول إحدى القاعات المغلقة، ومُنع الزائرون من الدخول،  بما في ذلك الصحافيين، ولمّا طال غياب الإخوان في هذه القاعة، تبيّن أنهم باشروا الطقوس التقليدية لتكريس الممثل محسن سرحان. تسلّلت عدسة مصوّر المجلة إلى القاعة من خلال "فرجة فُتحت قليلاً"، والتقطت صورة لمحسن سرحان وهو معصوب العينين، وسط يوسف وهبي وعيسى أحمد، " كل منهما يرتدي الزي الرسمي للماسون، شاهراً بيده سيفا من الخشب حلّق به على رأس محسن سرحان".

بعد تكريس عضوية محسن سرحان، أُغلقت الفرجة، وانقطع كل اتصال بين الزائرين وبين الأعضاء الحاضرين في داخل القاعة السرية. طالت هذه الجلسة المغلقة، وتبيّن ان السبب في هذه المرة كان تكريس يوسف وهبي رئيساً لمحفل الفنان المصري. عند انتهاء طقوس هذا التكريس، أراد بعض الأخوان الماسون التقاط صورة تذكارية داخل الهيكل السري في هذه المناسبة، وبعد أخذ وردّ، خرجوا باقتراح آخر يقضي بضرورة عصب عيون المصورين اثناء التقاط الصور، لكن المصورين رفضوا هذا الاقتراح نظراً لاستحالة التصوير في هذه الحالة. في النهاية، وافق الملتزمون على التقاط الصور التذكارية، فدخل الزوار الهيكل السري، وقد أحاط بكل منهم عدد من الإخوان، وحُرم عليهم التلفّت يمنة ويسرة. وفي هذا الجو، التُقطت بعض الصور التذكارية، وبعد مدة قصيرة لم تتجاوز الخمسة دقائق، صدرت الأوامر بإخراج الزوار من الردهة، فخرجوا مستسلمين. اجتمع الفنانون الماسون من جديد في حفلة شاي، وانضم إليهم بعض الفنانين الضيوف، منهم المخرج السينمائي السيد زيادة، والممثلتان فردوس حسن ودرية أحمد، وبعد ذلك انتقل الجميع إلى حفلة سمر أحيتها المونولوجست الصغيرة زيزي والمغنية الشامية وداد محمد.    

في دردشة سريعة، سأل محرّر "الفن" النجم محسن سرحان عن الاجراءات التي اتُخذت في حفل تكريسه، فهزّ رأسه ضاحكاّ، وقال إنه لا يعرف شيئاً. واصل المحرّر هذا الحوار، وسأل الممثل: "هل الماسونية هيئة دينية؟"، فردّ بالنفي، فأردف الصحافي مستفسراً: "لماذا يقولون باسم مهندس الكون الأعظم؟"، فأجاب بأن ذلك يماثل قول المسلمين "باسم الله الرحمن الرحيم"، وقول المسيحيين "باسم الآب والابن والروح القدس". واستنتج المحرّر: "إذا هي جمعية دينية لأن لها بسملة؟"، فتملّص محسن سرحان من الإجابة، وقال: "لا، لا، انا لا أعرف، اسأل أخ أقدم مني، أنا ما زلت جديداً"، ورفض بعد ذلك أن يجيب على أي سؤال. ويمكن القول ان هذه الدردشة تعكس صورة الماسونية الملتبسة في المخيّلة الجماعية على مرّ العصور.

نقع على صور أخرى تسجّل نشاط "محفل الفنان المصري" في ذلك الزمن، ومنها صورة يظهر فيها الممثل جالساً على كرسي سدّة المحفل، وأخرى يظهر فيها الممثلون زكي طليمات وأحمد علام وكمال الشناوي في جلسة من جلسات هذا المحفل. فوق هامات الحاضرين، تظهر على الجدار "عين المهندس الأعظم" داخل المثلث الشهير المعروف أحياناً باسم "الدلتا المضيء". تُعرف هذه العين كذلك باسم "عين العناية الإلهية"، وهي مثبتة على وثيقة "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الفرنسية، كما على "ختم الولايات الأميركية العظيم" وعلى ورقة الدولار الأميركي، وحضورها هذا يشهد لقوّة الماسونية وسيطرتها على العالم في نظر عامة الناس في الشرق. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها