الخميس 2017/08/17

آخر تحديث: 12:58 (بيروت)

دَع عنكَ طفلي!

الخميس 2017/08/17
دَع عنكَ طفلي!
الموظف يتمتع بيقين مدهش من أنه مسموح له حَمل طفلي (غيتي)
increase حجم الخط decrease

"تعال لعندي.. تعال!". تصرّ البائعة الخمسينية في محل الأحذية. تفتح ذراعيها وتقترب، وتقترب، ولا يبقى إلا أن تنتزع طفلي من بين يدي عنوة. كان يبكي، ومزاجه معكّر. لم يحظ، في عربته الصغيرة، بقسط كافٍ من قيلولة العصر، بسبب "الإثارة" التي يشكلها بالنسبة إليه ضجيج المركز التجاري وناسه.

"جوعان"، تفتي البائعة في شأن ابني الذي لم يتجاوز 18 شهراً من عمره. فأبتسم بلطف وأشرح بأنه نعسان، وسيهدأ بقليل من الهدهدة. لكن، ما أدراني أنا؟ فلستُ سوى.. أمّه. "تعال لعندي". متأكدة هي من أنها أقدر مني على تهدئته ومواساته، لكنه يدير وجهه ويتعلق برقبتي. وفجأة، تختفي، لتعود وفي يدها بسكوتة: "خُذ، كُلها، أنت جوعان". هذه من اللحظات التي ألعن فيها تربيتي إذ تمنعني من صدّ بسكوتة لا أعرف من أين أتت، ولا إن كانت قديمة أو نظيفة. ألعن تهذيبي المزمن الذي يكبت الآن عبارة "يا ريت تحلّلي عنا"... "قولي لها شكراً، لكني لا أطعم ابني السكاكر"، يحثني صوتي الداخلي. وفوق هذا، هو ليس جائعاً! وإن جاع، فطعامه موضّب في شنطته!! لكني لا أملك سوى ابتسامتي المؤدبة، ولو أني متأكدة أنه لو كان للابتسامة أن تقتل، لسقطت تلك المرأة صريعة الموقف.

أستدير خارجة، بعدما عدلتُ عن انتهاز فرصة التنزيلات لتجربة حذاء أعجبني. كان طفلي قد بدأ يلعق البسكوتة اللقيطة، وأنا أحاول إلهاءه كي لا يفعل. وما إن بتنا على عتبة المتجر حتى انتزعتها منه ورميتها في الزبالة، فجنّ جنونه، وضاعف من بكائه! فاجتاحتني رغبة عارمة بالعودة إلى تلك "الماما الفطرية" لأصرخ في وجهها، لكني أكتفي بشتيمة في سرّي فيما أمشي بطفلي المتوتّر إلى حيث ركنتُ السيارة.

تتكرر سماجات الغرباء الحبّية هذه، كلما خرجتُ برفقة ابني. هذه تؤنبني (بمحبة طبعاً) لأني لا ألبسه قبعة تقيه الشمس. وتلك تلفت نظري (بمحبة أشدّ) إلى أن الأطفال كلهم يتعثّرون ويقعون، ولا يمكنني، كلما سقط، أن أحضنه وأتفقد وجهه ورأسه لأطمئن إلى أنه لم يصب بأذى. والأخرى، في الصيدلية، تنظر إليّ بعتب (تجاوز، بسرعة البرق، الرسميات المعهودة بين زبونتين)، وذلك لأني أشتري له مرطبان فاكهة عضوية أبقيه في حقيبته لطوارئ جوعه: "ولو؟ شو بدها؟ إطحني له الفاكهة في البيت، بتشتغلي؟ القصة بدها خمس دقائق، حرام!". حرمت عليكِ عيشتك يا بعيدة.

نساء من الفئات العمرية كافة. غريبات، ألتقيهن في المصعد أو السوبرماركت. من جيلي، أو أكبر، أو أصغر. يمسين كلهن أمّهات لي ولإبني على حد سواء. يفكّكن شيفرة بكائه الذي يصدّقن ويؤمنّ، كتحصيل للحاصل، بأنهن يفهمنه أكثر مني، كما لهنّ عليّ "مَونة" الملاحظات الرعائية. المضحك أن أحداً من عائلتي، أو عائلة زوجي، لا يعتقد بامتلاكه مثل هذه الصلاحيات. حسناً، ربما تطلّب الحدّ من تدخلات أمي صِداماً أو اثنين، لكن التفاعل استتب سريعاً وبشكل مريح.. وهذه، في النهاية، أمّي، جدّة طفلي. فمَن أنتنّ؟

ثم نأتي إلى الرجال: موظف الأمن في إحدى المؤسسات شبه الرسمية، حيث كنا ننتظر إنجاز معاملة، يلحّ أن "أعطيني اياه.. اتركيه اتركيه.. لا بأس". كان ابني في حالة من النشاط، يريد استكشاف كل ما حوله، وأنا وزوجي نحاول أن نلاعبه من دون أن نتركه يجتاح الممرات بين المكاتب. والموظف يتمتع بيقين مدهش من أنه مسموح له حَمل الطفل، وتنفيذ تمارين رفعه في الهواء التي يمارسها الآن بذراعيه في محاولة لإغرائه بالقدوم إليه، وكأن والدَيه موافقان بلا شك، وكأن طفلي نفسه يريد ذلك بالتأكيد.. لكنه ربما لا يدرك الأمر بعد.

أما الشاب الموكَل، من البقّال، بإيصال الأكياس إلى سيارات الزبائن، فلا يفكّر مرتين قبل أن يلمس شفتي طفلي، بطريقة من يداعب ولداً من عائلته يعرفه منذ ولادته، مطلقاً ذلك الصوت المريع: "كغغغغغ.. كغغغغ!". فعلها بسرعة، أول مرة، قبل أن أتمكن من منعه. وقبيل المرة الثانية، كنتُ قد هرولت بابني إلى مقعده في السيارة، وكأني أخطفه من ذويه.

لا أعرف إن كانت هذه "ميزات" لبنانية، أو عربية، أو كونية. لكن المشكلة تبقى قائمة. لا تنحصر في التهمة الشهيرة بمبالغة الأمهات والآباء في حماية أطفالهم، سواء من الجراثيم أو الحوادث أو حتى المنحرفين. كما لا تقتصر على الضيق بتدخلات خارجية، من غرباء، في أمور على هذا القَدر من الخصوصية. فهناك مسألة الطفل كجسر "بديهي" لرفع الكلفة بيني وبين أشخاص، ربما ما كنت لأتبادل معهم حديثاً يتجاوز "صباح الخير"، لولا أن ابني بين ذراعيّ.

والأفدح، أن الأطفال في هذه الحالات، يبدون مجرّدين من حقهم في فضائهم الشخصي، تلك المساحة المحيطة بأجسادهم، والتي غالباً ما تُنتهك باسم الافتتان "الطبيعي" بالطفولة، وهي المساحة نفسها التي غالباً ما يلتزم الغرباء باحترامها مع البالغين. إذ تقتضي البداهة ألا يفكّر موظف الأمن أو صبي البقّال، أو البائعة في متجر أو زبونة الصيدلية، بلمس أي امرأة أو رجل، هكذا بلا سابق معرفة، أو مسوّغات تتجاوز الاستظراف. بل لن يفكّر أي من هؤلاء، إن كان إنساناً طبيعياً، في الأستذة فجأة على غرباء راشدين في طعامهم وملبسهم وتسليتهم. فلماذا يستباح الطفل... وأهله أيضاً؟! ألأن الطفل لا يجيد التعبير أو الرفض القاطع، فيتم غزو مساحته بلا استئذان؟ ألأني الأم التي لا تشكّل الفظاظة ردّ فعلها الأول، لأنها ما زالت تستحي نيابة عن الآخرين؟ (سامحك الله يا أمي). لا بأس. ملحوقة يا حَناين. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها