الثلاثاء 2017/08/15

آخر تحديث: 12:36 (بيروت)

زيارة إلى صلاح حافظ: الحرية الجنسية تعويضاً عن هزيمة1967

الثلاثاء 2017/08/15
زيارة إلى صلاح حافظ: الحرية الجنسية تعويضاً عن هزيمة1967
فاللغة التي صاغ بها المؤلف كتابه، تحمل صفتي التحذير والإرشاد
increase حجم الخط decrease
في العام 1971، أصدر الكاتب المصري صلاح حافظ، كتابه "التاريخ الجنسي للإنسان"، ضمن سلسلة الكتاب الذهبي، الصادرة عن مؤسسة روزاليوسف، لأنه رأى أن الجنس "ما زال موضوعًا فوق المناقشة العلمية" في مصر والعالم العربي. ومؤخراً، أعادت المؤسسة الصحافية ذاتها طباعة الكتاب، في محاولة لإحياء سلسلتها القديمة، التي توقفت أكثر من ن أربعين سنة، بعدما زخرت بمؤلفات لأسماء لامعة مثل يوسف إدريس وفتحي غانم وإحسان عبدالقدوس وروز اليوسف... وغيرهم. لكن من يمسك بكتاب صلاح حافظ اليوم، لن يشاركه ذلك الهم الذي دفعه لتأليفه -بالرغم من أن الكلام في الجنس ما زال من المحرمات رغم مرور هذه الأعوام كلها. بل ينصرف ذهنه للسؤال عن كنه ذلك المجتمع الذي أراد المؤلف أن يتوجه لمناقشته، وعن أسباب اختياره ذلك التوقيت لطرح موضوعه.

فاللغة التي صاغ بها رئيس التحرير الأسبق لمجلة روزاليوسف، كتابه، تحمل صفتي التحذير والإرشاد. في حين يتعدى موضوع الكتاب، الذي حمل عنوانًا يشبه البحوث الطبية "التاريخ الجنسي للإنسان.. من الكهوف إلى حبوب منع الحمل"، حاجز النقاش المجرد لمسألة الجنس، بل يبدو كدعوة صريحة لإطلاق حرية الجسد، التي لن تتأتى إلا بإطلاق الحرية الجنسية أولاً، وذلك عبر استعراض لتاريخ العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة منذ الإنسان الأول وحتى نهاية القرن التاسع عشر. الأمر الذي يثير التساؤل حول كنه ذلك المجتمع الذي يخاطبه حافظ، والسياق التاريخي الذي أثار فيه ذلك الخطاب. لكن المقدمتين في الطبعة الثانية للكتاب، وجاءتا بتوقيع طبيبين وناشطين سياسيين معروفين، لم تتطرق لتلك المسألة بشكل دقيق.

فرأى الدكتور محمد أبو الغار، وهو طبيب متخصص في أمراض النساء والتوليد، أن الكتاب جاء ليواجه "الغزو الوهابي" لمصر، والذي بدأ في رأيه بعد رحيل جمال عبد الناصر. في حين انشغل الدكتور خالد منتصر، وهو طبيب متخصص في الأمراض الجلدية والتناسلية، باستعراض موضوع الكتاب وبعض من تاريخ صلاح حافظ المهني والسياسي. والملفت للنظر أن رئاسة تحرير السلسلة الحالية للكتاب الذهبي، اختارت طبيبين متخصصين في الأمراض الجنسية –وإن كان نشاطهما الثقافي معروفاً- لتقديم الكتاب، وكأنها تتخوف من مضمونه وتبتغي التأكيد بأن الهدف من نشره هو "البحث العلمي" أولاً وأخيراً!

وليست هينة الدعوة لإطلاق حرية الجسد، وإن لم يصرح بها المؤلف لفظياً، في حين يشير إلى غياب النقاش الجنسي العلمي عن الحوار المجتمعي، خصوصاً في أعقاب نكسة حزيران/يونيو، والتي ربما كانت دافع صلاح حافظ لتأليف الكتاب. ويقول الشاعر عبدالمنعم رمضان (1951)، الذي كان طالبًا في الجامعة وقت صدور الكتاب، واقتنى طبعته الأولى، إن "المجتمع المصري عانى انخفاضاً كبيراً في المعنويات بعد هزيمة 1967، وجعل الجهاز الإعلامي للدولة هدفه استعادة الروح التي كانت سائدة قبل ذلك، وقد أبدى النظام استعدادًا لتوسيع مساحة الحرية تعويضاً عن الهزيمة".

ويوضح لـ"المدن" أنه "في سبيل ذلك تم الاحتفاء بشعراء الأرض المحتلة، مثل محمود درويش وسميح القاسم. واختير ياسر عرفات، الذي تعلم في جامعة القاهرة، لخلافة يحيى حمودة في رئاسة منظمة التحرير الفلسطينية. كما اكتشف رجاء النقاش، الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، وقدمهما للإذاعة قبل أن يعود هو نفسه للهجوم عليهما باعتبارهما شيوعيين. وفي ظل تلك الحرية، سمح النظام بفتح أفق للحريات الجنسية في محاول لمغازلة روح الشباب الذي عانى صدمة الهزيمة، ولا أقول إن صلاح حافظ الماركسي كان أداة في يد النظام، فقد ظل طوال حياته على يسار السلطة، لكن كتابه جاء -ربما- متأثرًا بما أتاحته تلك الفترة، إذ رأى بأن أولى الخطوات في سبيل الحرية هي تحرير الجسد، وأن الخلاص من الهزيمة سبيله حرية الجسد".

فيما يرجح د.محمد عفيفي، أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة، في حديثه إلى "المدن"، أنه من الممكن أيضًا أن يكون الكتاب محاولة لمواجهة الأزمة التي أحدثها سيد قطب في العام 1965 بتكفيره للمجتمع، إذ بدأ المثقفون في أعقابها بالتصدي لأفكاره عبر العديد من الأعمال التنويرية.

لكن فرضية عبد المنعم رمضان تبدو الأقرب. فبالنظر إلى رواية "الكرنك"، التي انتهى نجيب محفوظ من تأليفها في ديسمبر1971، وصدرت طبعتها الأولى في العام 1974، سنجدها تعتبر العلاقة الجنسية في ظل الكبت والانكسار، علاقة مهزومة، مثلما جرى في اللقاء الجنسي الذي جمع بطليها إسماعيل الشيخ وزينب دياب، عقب خروجهما الثاني من المعتقل.

ونجد التفسير نفسه موجودًا عند صلاح حافظ في كتابه، غير أنه أبدى حرصًا واضحًا في أسلوب صياغته بحيث لا يوحي الكتاب بأنه يحمل دعوة للانحلال. فبدا أحياناً كمن يحكم أخلاقيًا، أبطال القصص التي يعرضها، بينما يصنف في أحيان أخرى الأدب الجنسي في نوعين: فني ومبتذل. وهذه اللغة، إن أوحت بشيء في ظل الطرح الجريء الذي تتبناه مادة الكتاب، إنما توحي برغبته في توجيه نظر المجتمع إلى أن الحرية الجنسية ليست بأي حال من الأحوال مرادفًا للانحلال.

وتتضح الرغبة في تقويم المجتمع أو لنقل لفت نظره، في المقاربات التي يصنعها المؤلف (وإن مر عليها سريعًا) بين ما يصفه "الآخر" وما نصفه "نحن"، نحو ما جاء في ذكر اكتشاف مرض الزهري: "وقد عاش هذا الاسم (المرض الفينوسي وسمي كذلك نسبة لفينوس) أيضًا حتى عصرنا الحاضر، لكنه لم يعد يطلق على الزهري وحده.. وإنما على جميع الأمراض التي تنتقل عن طريق الاتصال الجنسي، فالأوروبيون يطلقون على هذه الأمراض اليوم اسم "الأمراض الفينوسية".. بينما نطلق عليها نحن اسم: الأمراض السرية"!

لكن رغبة المؤلف لا تقف عند لفت نظر المجتمع وحده إلى تلك القضية، وإنما تمتد إلى لفت نظر حكامه أيضًا. فتفسيره لطابع مارتن لوثر كينغ الثوري باعتباره نتيجة لكبته الجنسي، يبدو غريبًا على صلاح حافظ، ماركسي الهوى، ولا يمكن المرور عليه عرضًا، وبالضرورة لا يمكن تفسيره إلا في إطار الرغبة في لفت أنظار الحكام إلى أن الكبت الجنسي من الممكن أن يصنع ثورة تهدد النظام: "ماذا كان أثر الزواج في مارتن لوثر بعد حرمانه الذي دام أربعين سنة؟ لا توجد بالطبع إجابة قاطعة.. لكن لوثر كان على أية حال رجلًا فارع الجسم سليم البنية، ممتلئًا بالحيوية.. ولا جدال في أن الحرمان الذي فرضه على نفسه كان يناقض طبيعته، وغرائزه، ولعل هذا كان من أسباب مزاجه الثوري المتمرد. وقد تزوج لوثر بعد الأربعين.. أي في السن التي تفقد فيها الغريزة الجنسية طابع التفجر، وتتحول إلى شيء أشبه بالنهر الهادئ.. ومع ذلك، فإن زواج لوثر أفاده كثيرًا من الناحية النفسية والبدنية.. فالثابت أنه بعد هذا الزواج أصبح أكثر اتزانًا، وأنه اكتسب الكثير من السلام النفسي.. وصار ميالًا إلى وزن الأمور بحكمة، ولم يعد يميل إلى الحلول العنيفة لأية مشكلة".

لكن تلك الرغبة لدى حافظ في لفت نظر المجتمع إلى ضرورة التحرر الجنسي، لم تجعل منه رومانسيًا يروج العلاقة الجنسية في إطار شاعري، بل على العكس كان يناصرها باعتبارها غريزة إنسانية جديرة بالاحترام في حد ذاتها، ومنفصلة في الوقت نفسه عن الوظيفة المجتمعية المتعلقة بالتناسل: "ولأن عصرنا ابتذل الجسم كثيرًا، فقد عجز معظم العلماء عن تصور أن هذا التقديس كان لما تتيحه المرأة من متعة جنسية، وقرروا بشبه الإجماع أن التقديس كان لوظيفتها كأم تنجب البنين، وتضمن استمرار الحياة، لكن ما تركه الأقدمون يقطع بأن العلماء إنما خدعوا أنفسهم، وخدعونا بهذا التصور. فإنسان العصور القديمة عرف الجنس –كما ذكرنا- منفصلاً عن الإنجاب –والتماثيل والرسوم التي عبر فيها عن تقديسه للمرأة تخلو –كما ذكرنا أيضًا- من نموذج واحد يصور الأمومة.. ولا مفر أمام الباحث المنصف من أن يستخلص من جميع هذه الرسوم والتماثيل حقيقة مؤكدة.. هي أن القدسية في العصور القديمة انصبت على متعة الجنس ذاتها. بصرف النظر عن آثارها العضوية أو الاجتماعية. ولهذه الحقيقة أهمية خاصة في ما يتعلق بالمفهومات الجنسية والأخلاقية الشائعة اليوم".

ويتسع الكتاب، الذي استند في مادته إلى بحث العالم الألماني ريتشارد لفنغستوهن، بعنوان "تاريخ العادات الجنسية"، لعرض العديد من الحقائق والحوادث التاريخية المدهشة المتعلقة بالتاريخ الجنسي للإنسان، الذي يتتبعه منذ أن سكن الكهف، مروراً بصنعه لحضارات مثل الإغريقية والرومانية، ثم يرصده في عصوره الوسطى، فعصر النهضة، وحتى نهاية القرن التاسع عشر. لكن صلاح حافظ يغفل الحديث عن الجنس في التاريخين الفرعوني والإسلامي، وهو الأمر الذي يأخذه عليه كل من محمد أبو الغار وخالد منتصر. غير أن مرجعيته الماركسية ربما تفسر ذلك الأمر، والتي قد تجعله يعود للمؤلفات الماركسية التي وضعت في هذا السياق، واهتمت بتاريخ العصور التي هيمنت فيها الكنيسة على مقاليد الأمور، حيث إنه لم يغفل فقط التاريخين الإسلامي والفرعوني وإنما أغفل أيضًا التاريخ اليهودي.

وبالرغم من ذلك النقص التاريخي، إلا أن الكتاب لا يبدو متأثراً به. فبالرغم من اختلاف الحضارات وتنوع الحوادث التاريخية المتعاقبة، إلا أنه يخلص إلى حقائق إنسانية تفسر الوضع المجتمعي والسياسي الحالي، مصريًا وعربيًا، والذي يبدو أنه لم يتجاوز بعد الواقع الذي نشر فيه الكتاب للمرة الأولى.


صلاح حافظ: واحد من أبرز الكتّاب والصحافيين المصريين. لقّب بـ"مايسترو الصحافة المصرية"، وكان رئيسًا لتحرير "روزاليوسف"، ومؤسساً لمجلة "صباح الخير". التحق بدراسة الطب العام 1948، وانشغل في الوقت نفسه بالعمل السياسي حيث انضم للحركة الديموقراطية للتحرير الوطني "حدتو"، واعتقل على إثرها لمدة 8 سنوات في فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر، ما اضطره لترك دراسة الطب.

 ويملك صلاح حافظ أسلوبًا مميزاً يتضح في ما خلفه من كتابات، ويظهر جليًا في هذا الكتاب، بلغة وأسلوب حداثيين تمامًا، وله عدد من الأعمال السردية المنشورة. كما ترجم السيرة الذاتية لشارلي شابلن، والتي صدرت في مجلدين للمرة الأولى ضمن إصدارات "الكتاب الذهبي"، ثم أعاد مشروع "مكتبة الأسرة" في هيئة الكتاب إصدارها مجتمعة في مجلد واحد.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها