الإثنين 2017/08/14

آخر تحديث: 12:27 (بيروت)

"ساحة 7 آب": الإحتفاء بالإختفاء

الإثنين 2017/08/14
"ساحة 7 آب": الإحتفاء بالإختفاء
دُشّن النصب التذكاري في ذكرى 7 آب في حضور رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل (المدن)
increase حجم الخط decrease
لا ساحة في محلة العدلية، ولا في وسط مستديرتها، ومع ذلك، فقد أطلقت عليها بلدية بيروت اسم "ساحة 7 آب"، لتكون عبارة عن حديقةٍ صغيرة، يرتفع فيها نصب تذكاري، يجسد نضال العونيين والقواتيين ضد نظام الأمن البعثي-اللبناني المشترك في العام 2001، كما يرتفع فيها مجسم إعلاني، يحمل علامة المصرف الذي عمد الى تمويل استحداثها. ولمن يتطلع الى هذه "الساحة"، يلاحظ غياب الألفة بين عمرانها وعمران محيطها. فالأول، يتسم بألوان النبات والأشجار، فضلاً عن ترتيبه ليبرز بمنظر منسجم في كليته. أما الثاني، فيتصف بالشحوب، الذي تنتجه مبانيه وطرقاته الرمادية، عدا عن أنه جاثٍ تحت الجسر، حيث يحل محكوماً بدوران المركبات فيه، قبل انصرافها منه. 

وهكذا، يبدو محيط "الساحة" أكثر وطأةً منها، اذ يبتلعها، ويجعلها شبه مرئيّة في مشهده. بالاضافة الى ذلك، يترك أثره فيها. فلأنه معبر، وبالتالي، يبقى، ومهما اكتظ بالسيارات والمشاة، رجاءً مهجوراً بالضرورة، وهذا ما يدل عليه وقته الليلي، الذي يصير مقفراً خلاله، تغدو "الساحة" فيه مدموغة بالهجران أيضاً.

فمع أن "الساحة"، أي الحديقة الضيقة، مجهزة ببابٍ، يفضي اليها، الا أنه لا يجعلها مفتوحةً أمام الزائرين، الذين وفي حال تخيلهم فيها، يظهرون مضطربين نتيجة الضوضاء التي تحاصرهم من كل حدب وصوب. وعلى هذا المنوال، حديقة "الساحة" شبه مغلقة، ولا تحقق الغرض المحوري منها، أي استقبال الأناس داخلها، مكتفيةً بكونها منظراً جميلاً وخالياً، تثير العين نحوها، والعين فقط.

إذاً، جرى اختزال "الساحة"، بوصفها فضاء تجمع واحتجاج، بحديقةٍ. وجرى اختزال الحديقة، باعتبارها فضاء الترويح عن النفس، بمنظر جميل، ولا أحد فيه. فـ"ساحة 7 آب" مجرد زينة، زينة الاحتفاء بيوم نضالي من الماضي، بيوم ولّى وانقضى، وما عاد له أي محل الآن.
لاستحداث "الساحة" معنى سياسي طبعاً، لكنه لا ينفصل عن مرأى تشييدها. فقد عرف المنطق العوني كيف يختزل ساحاته لتتحول الى طرق، تحمله الى مأربه الرئيسي، أي الرئاسي. ومع أن سلطته قد حققت هذا المأرب، غير أن ذلك لم يردها عن الإمعان في الاختزال. وسرعان ما أضحى الفعل الأخير ضرباً من ضروب إزالة الماضي عبر تغييره الى زينة مصنوعة للاحتفال بكون كل الساحات قد أدت الى بعبدا، وبكون الحاجة اليها قد انتهت.

وأن يغدو الماضي حديقة تزيينية بعدما كان ساحة حدوثية، فهذا أقسى من نكرانه، وأقسى من طمسه، بحيث لا يعود من الممكن الوقوف على وقائعه، والاستفادة من دروسها. وفي الوقت نفسه، لا يعود من المتاح الحداد عليه. إذ أنه ماض معلق، كلافتة زرقاء، كتمثال حجري، كإعلان مصرفي، في الهواء المقطوع.

لما يستفهم هؤلاء الذين تعرضوا للسحل والاعتقال بالقرب من قصر العدل عن ماضيهم، ستجيبهم السلطة العونية بـ"ها هو ساحة أمامكم". وعندما سيستفهمون عن هذه الساحة، تجيبهم بـ"ها هي حديقة أمامكم". وعندما يستفهمون عن خلائها، قد تجيبهم بـ"هذا من جراء وقوعها وسط المستديرة". لكن هؤلاء سيدركون أنهم ممنوعون من نسيان ماضيهم، ومن تعقب وقائعه، فما عليهم سوى الاحتفاء بإختفائه، باختفائهم، ما عليهم سوى المرور بإسمه من دون السؤال عن تعليقه.

حين تحول السلطة العونية، الماضي، الى ساحةٍ، وجودها مختزل في إسمها، الى حديقة جميلة وفارغة، فهذا لأنها تريد الجمع بين الانتهاء منه والحفاظ عليه، بين طي صفحته والإمساك به، بين تبديد وقوعه والاعتقاد بأنه لا بد منه. فلا تعمد الى أسطرته، لأنها بذلك تصون أثره، ولا تتنازل عنه، لأن ذلك يفقدها مصداقيتها الشعبية بالكامل. لذا، تحوله الى زينة شبيهة بالزينة البلاستيكية، التي لا تتقادم، لكنها لا تتجدد، فتتوقف على نضارةٍ لا روح فيها، وهذا ما يجعل من "ساحة 7 آب" حديقة لتدوير الاحباط.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها