الخميس 2017/08/10

آخر تحديث: 14:44 (بيروت)

أرض الأحلام

الخميس 2017/08/10
أرض الأحلام
الموظفون يقودون دراجاتهم الملونة إلى "مجمع غوغل" في ماونتن فيو - كاليفورنيا
increase حجم الخط decrease
أثبتت الأزمة الأخيرة في شركة "غوغل" أن أميركا ما زالت، رغم كل شيء، أرضاً للأحلام. بالتأكيد، لا مفرّ من إشكاليات الرأسمالية الذاهبة إلى مداها، وما تعنيه المنافسة المحضة في معظم القطاعات، والفجوات الكثيرة في "السيستم" السياسي والاجتماعي، وسطوة "الاستابلشمنت"، والصراعات حول التأمين الصحي والشيخوخة والدمج والديموقراطية عموماً، والشروط بالخطّ الصغير أسفل شعار الفرص المتكافئة التي تتيح لأيٍّ كان أن يصبح ما يريد... لكن أميركا ضخمة، والمجتمع فيها مهول، بل قُل المجتمعات لم تكتسب تسمية "melting pot" عن عبث. بل إن غليان الأفكار والتيارات والنزعات ليس سوى السمة الطبيعية في "وعاء الخليط" الهائل هذا، والذي لا بدّ سيظل يتفاعل بتناقضاته وتكاملاته العِرقية والإيديولوجية والجندرية وغيرها، رغم (وبعد) انتخاب أول رئيس أميركي من أصول إفريقية، ورغم (وبعد) جلوس خَلَفه دونالد ترامب في المكتب البيضاوي.

إلا أن الأحلام المقصودة هنا، لا تنحصر في آمال الترقي الاجتماعي والوفرة و"السعادة".
فأن تكون عربياً مشرقياً، وتتابع قضية "غوغل" الأخيرة وكيف تدار تناقضاتها الأميركية (المختلفة كثيراً عن السياقات الأوروبية – وربما لهذا هي أكثر إثارة للاهتمام)، فلا كلمة لك سوى الحلم، تُربِّت كَيَدٍ حانية على يأسك المُطبِق من أن تشهد قضية من هذا النوع والحجم على أرضك وبين ناسك.

إذ حصل أن "غوغل" العملاقة، إحدى أبرز رموز العولمة وهيمنتها الثقافية، طردت واحداً من مبرمجيها الأكفّاء على خلفية مذكرة داخلية نشرها في إحدى منصات التواصل بين موظفيها الذين يفوق عددهم السبعين ألفاً. وقد كتب المبرمج جايمس دايمور، نصّاً مطولاً عبّر فيه عن رؤيته لسياسة "التنوع" التي تنتهجها الشركة في التوظيف والترقيات، لا سيما على الصعيد الجندري، معتبراً أن فوارق بيولوجية "مُثبتة" بين الذكور والإناث، تجعل النساء غير مؤهلات لوظائف معينة في "غوغل". وقامت الدنيا ولم تقعد. استعر النقاش ضمن المجتمع "الغوغلي" وتسرّب إلى عموم مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الأميركي والعالمي. وإذا كان لا من الاعتراف لدايمور بأن مَنطِق مذكرته وحججها، لم يبلغا القاع بمعايير "خطاب الكراهية"، وأنه حاول جاهداً أن يبدو علمياً وبراغماتياً، بل واستباقياً لتدارك "مشكلة" مهنية صرفة، فإن الحرب الثقافية التي أطلقها من حيث لم يتوقع، بيّنت أنه لا حاضنة لأفكاره اليمينية المحافِظة، على الأقل في "وادي السيليكون". وهنا تبدأ المتعة.

فالزوبعة الجدلية تجاوزت رطانة "المساواة الجندرية"، لتتصدرها عناوين من قبيل: تسميم بيئة العمل، والخطر على ثقافة الضمّ في مواجهة الإقصاء. حتى الكلام عن تهديد التنوع، بدا أعمق وأكثر تعقيداً، إذ ميّز بين تنوع البشر وتنوع الأفكار. فقد أفادت إحصائية سريعة بأن نحو الثلث من عينة 278 موظفاً(ة) في "غوغل" يوافقون دايمور، وبالتالي يميلون إلى اليمين المحافظ ومنظومة أفكاره التي أتت بترامب رئيساً. وأقرّ كثر من هؤلاء بأن دايمور نفَّس الكبت الذي يعانونه بفعل رقابة ذاتية باتوا يمارسونها تلافياً لتعرضهم "للوصم" والمعايرة والإسكات وربما الطرد، كما حصل مع زميلهم، وذلك بسبب "الثقافة اليسارية الليبرالية المهيمنة على شركات التكنولوجيا الأميركية"، حسبما قالوا. وهذا ما يفتح الباب على إعادة التفكير في معنى حرية الفكر والتعبير المكفولة في الدستور: فأي حدود لهذه الحرية؟ متى يتعين إيقافها بصرامة من دون المخاطرة بتُهمة كمّ الأفواه؟ ومتى يصبح تنوع الأفكار (إن تم التسامح مع أفكار دايمور مثلاً بدعوى صون حرية التعبير) مقصلة التنوع البشري في حد ذاته؟

أما فكرة "اليسار الليبرالي" سائداً في شركة مثل "غوغل"، إلى درجة تسمية الفضاء الحواري الداخلي "غرفة صدى" للديموقراطيين، فهذه تستحق أطروحة مستقلة تقارب التشابك العجيب بين الثقافة السياسية هذه، وبين أعتى رموز العولمة التي يفترض أن الجمهوريين أو حتى ترامب يمثلونها، وقد حازوا السلطة بالفعل. وهي العقدة التي تمسي أكثر إثارة للاهتمام حينما نقرأ أن دايمور، بعد طرده من "غوغل"، بل وبأثر من أسباب طرده نفسها، تلقى عروض عمل مغرية ليس أقلها من جوليان أسانج الذي قال إن "الرقابة هي للفاشلين فقط". ومعلوم أن مؤسس "ويكيليكس" متهم بالولاء لنظام فلاديمير بوتين، وبتسريباته الممنهجة لإسقاط هيلاري كلينتون في معركتها الانتخابية أمام ترامب.

وتزداد الإثارة تشويقاً حينما نستعيد تصدّي شركات التكنولوجيا والتواصل الاجتماعي لسياسة ترامب في شأن المهاجرين، عندما استحضرت، مثلاً، فضل الأميركي من أصل سوري ستيف جوبز، وآلاف المبرمجين الآسيويين، على قطاع التكنولوجيا في أميركا والعالم. إضافة إلى لعبة شدّ الحبال بين تلك الشركات وبين الحكومات الشرق والغرب في مجال مكافحة التطرف والإرهاب، ومعها إشكالية مشاركة بيانات المستخدمين وسلوكياتهم الافتراضية مع شركات أخرى لأغراض تجارية وإعلانية، وغيرها الكثير من القضايا.

بالطبع، سيكون من السذاجة التفكير في شركات التكنولوجيا الأميركية كما قد نفكّر في مجموعات المُناصَرة أو التيارات السياسية. إنما، في المقابل، لا يمكن التغافل عن تلك الحيوية السياسية والثقافية، ليس في فُلك منتجاتها وتداولها فحسب، بل أيضاً في بطونها وداخل أروقتها. فهذه، في النهاية، ليست جامعات ولا مؤسسات بحثية ولا مشاريع فنية. ومع ذلك، علت من داخلها أصوات كثيرة، ليست بالضرورة متوافقة سياسياً مع دايمور، لاستنكار طرده، متسائلة: لماذا لم تعبّر إدارة "غوغل" عن رفضها للمذكرة، بمذكرة مقابلة، أو حتى بفتح النقاش، بدلاً من قطع رأسه هكذا؟ وهذا التفاعل، بقدر ما أنه مفهوم في الشركات العابرة للقارات ومتعددة الجنسيات، خصوصاً أنها من صُنّاع الأهواء الأساسيين حول العالم، يبقى مدهشاً بالقدر نفسه، لا سيما أن "غوغل" نفسها تعرضت لنقد مكثف مؤخراً على خلفية التمييز في الرواتب في حق الإناث من موظفيها، وطالبتها المحكمة بجداول الرواتب التي تتلكأ "غوغل" في تقديمها بذريعة... حماية خصوصية الموظفين!
إنها "الدويخة" الأميركية الجميلة. ولمعرفة المزيد، يمكن "غوغلة" الموضوع. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها