الأحد 2017/07/09

آخر تحديث: 10:52 (بيروت)

"18 يوم" الممنوع... لحظة خطاب التنحي في مصر

الأحد 2017/07/09
"18 يوم" الممنوع... لحظة خطاب التنحي في مصر
احتفى "18 يوم" بطريقة مبالغ فيها بخطاب التنحي
increase حجم الخط decrease
يطل فيلم "18 يوم"(*) من تخوم الثورة، ويضع الثمانية عشر يوما التي فصلت الإنطلاق عن التنحي مدى زمنيا تتحرك فيه الشخصيات، وعندما أُدخلت الكاميرا الى الميدان حاول المخرج أن يكون مقتضبا وخاطفا، أكتظت الشاشة بالوجوه الشابه بعضها غاضب وبعضها يهتف والبعض الآخر يراقب بتوجس، ثم ابتعدت الكاميرا عن كل هؤلاء لتنتقي وجوها أخرى مختفية داخل الأزقة البعيدة عن الميدان عاقدة في ما بينها وبينه علاقات درامية وفنية وخصوصا إنسانية.

كانت الكاميرا نشطة شديدة الحيوية تلتصق بالشخصيات وتأخذ حركاتهم وخلجاتهم لتؤكد بأنهم إنسانيون، تم تبدأ بتكوين الألبوم الخاص لكل شخصية بملخصات سريعة أو مكثف غني لحدث واحد تقاطع مع الثمانية عشر يوما المعنية، همّ الكاميرا والشريط السينمائي كله كان همّا إنسانيا بالدرجة الأولى وهو يتقدم على الهمّ السياسي، ولعل السياسي مكرس لخدمة الإنساني في كل لوحات الفيلم. تحركت الشخصيات حاملة الحدث على كتفيها بخلفية كبيرة تظهر الأيام الثمانية عشرة، تفاعلت بقصد وغالبا من دون قصد مع أحداث الميدان الشهير واختفت تاركة خلفها الأثر الإنساني الدامغ والذي غلف بعضه بغطاء عاطفي سميك...

لم يتورط الفيلم بنقل الصورة العنيفة بشكل مباشر عبر عنها بكنايات موجزة واستفاد من وثيقة صورية تظهر مشهدا بعيدا، يدور العنف فيه بعيدا عن عين المشاهد، وابقى المكونات الإنسانية حاضرة طوال الوقت. لم يرغب القيمون على الفيلم ان يكون توثيقيا أو حاملا لوجة نظر سياسية خاصة، كان ميالا لنقل ردات فعل البشر، من دون أن يخفي فرحة بخطاب التنحي الذي كرره في أكثر من لوحاته وكأنه عنوان للخلاص، وتتويج للأيام الثمانية العشرة الى كانت حافلة بالألم والرجاء الذي ظهر كالطوفان في لوحات الفيلم. تشابه كبير بين شخصيات اللوحات ولشدة تشابهها تعتقد بأنها شخصية واحدة مضاف اليها بضع رتوش اجتماعية، أما الإختلاف فكان في الدرجة وليس في القيمة، لم يختلف الضابط عن الشرطي عن رجل الحارة عن البلطجي، كلهم مطحونون يتحركون وفق دوافع بسيطة التركيب لا تتعدى تأمين الطعام أو تأمين عريس أو إرضاء رب العمل، ولكن وعلى الدوام يظهر خيط الحياة ناصعا على الشخصية، ابتعدت اللوحات عن الطبقة العليا التي تأبطت السلطة واحتكرت المجتمع، تركتها بعيدا عن أعين الكاميرا، واكتفت بظهورها منعكسة على الوجوه المعذبة التي تتمسك بأمل حقيقي أو كاذب...

ظهر قعر المجتمع بمعناه الإنساني والجغرافي والثقافي، الأجساد المكدسة في حارات شعبية قذرة، لا تدرك خفايا السياسة، او مقاهٍ بعيدة تنزوي في أحياء منسية لا تعرف من الميدان الا الصورة التلفزيونية، ورغم ذلك تجدها فرحة أو تضحك للتغيير من دون أن تعي ما يعنيه ذلك أو كيف سينعكس على حياتها، وبعضها متخوف وقلق ولكنه ينتظر ويأمل كنشاط بشري لازم، صورت اللوحات جانبا واحدا من كل شخصية، وهو ما تفرضه طبيعة الدراما الخاطفة التي سجلتها الكاميرا السينمائية. واستنتجت بسرعة ما تريد أن تبرهنه وهو أن هذا الكائن المعروض بألوان قاتمة على الشاشة ليس كائنا سياسيا بل هو مجرد كائن يعيش. لم تكن كل اللوحات العشر التي ضمها الفيلم بذات المستوى فارتفع بعضها حتى كاد أن يحلق وكانت دلالاته واضحة شديدة السطوع، كاللوحة المعنونة تحرير 2-2، وظهرت فيها هند صبري كما يليق بسيدة تسكن فوق السطوح وتناضل لتقدم لزوجها وجبة شهية بمكونات قليلة، ومشهدها الأخير على وجه الخصوص الذي يبدو فيه الزوج وهو يناول زوجته خمسين جنيها مبللا بالدماء وبعض اللوحات جاءت منخفضة التأثير ودلالاتها سرابية، كاللوحة المعنونة 1919، يحمل العنوان مقولات مزدوجة ويشير الى ثورة مصرية سابقة ولكنه هنا يحيلها الى رمز لسجين لا يتوقف سجانوه عن تعذيبه لينشلوا منه شيئا غير محدد، كانت هذه اللوحة متكلفة فيها افتعال واتهام تقليدي لرجال الأمن بالعجز الجنسي، وهي طريقة تبدو تقليدية للإدانة من المفروض أن ثورة كثورة ميدان التحرير تجاوزتها...

لم يبدو على الفيلم أنه خطابي ولكنه مرر صورة تبدو خارجة عن سياق اللوحة التي تحمل عنوان حظر تجول، وهي تظهر طفلا يقف على دبابة منعته عدة مرات من المرور الى بيته ومكتوب عليها "يسقط مبارك"، ظهرت اللوحة مقحمة في سياق لجد يحاول أن يحتال على دبابات حظر التجول في الوصول الى بيته فيفشل مما يضطره للمبيت في الشارع حتى صباح اليوم التالي، أما اللوحة الأخيرة والمعنونة اشرف سبيرتو فهي لا تتحدث عن اشرف سبيرتو في الواقع، بطلها طفل صغير يتعاطف معه الشريط السينمائي بقوه ويجبر المشاهد على الحزن بعرضه بطريقة عاطفية مع شهداء ثورة خمسة وعشرين أكتوبر، ولكن اللوحة لا تنتهي الا بعبارة تبدو شوفينية مكتوبة على السطح الخارجي لبوابة صالون اشرف سبيرتو تقول "أرفع رأسك فوق أنت مصري".



يستطيع الفيلم أن يفرش بساطا إنسانيا في الصالة التي يعرض فيها، دون أن يتخلى عن الجرعات العاطفية التي تعبث بمشاعر الجمهور والتي يحرص أن يبقيها حية بين اللوحة والتي تليها، وكان مغاليا في حقن "الحث الوطني" التي كانت الشخصيات تلقيها أو تهتف بها كحوارات متبادلة أو كانت تظهر كشعارات مكتوبة وموجهة للمشاهد وليس للسلطة التي تثور الجماهير ضدها، كان الفوران "الوطني" عالة على الهمّ الإنساني الذي أجتهد الفيلم بقوة ليظهره بقوة، فطن المخرج الى أن شخصياته بتركيباتها البسيطة عاجزة عن التعبير "بوطنية متطرفة" ففرضها كنهاية مكتوبة للفيلم، وظهر تقليديا مرة ثانية عندما أذاع مرة أخرى خبر تنحي مبارك مختلطا مع فرحة جماهير الحلاقة المحتشدين فيما، زوجة الحلاق تخبره بأنها حامل ككناية عن مرحلة جديدة تطوي مرحلة خطاب التنحي.


تبنى الفيلم النهاية العظمى للثمانية عشر يوما واحتفى بطريقة مبالغ فيها بخطاب التنحي وكأنه نهاية كل شيء، ومن بعده تبدأ الولادة الجديدة، لم يتطرق الفيلم الى ما قبلها ولكنه كان واضحا في إدانة لما قبلها بتحميله كل ما شهدته اللوحات من بؤس وقتل وتعذيب، لم يخف الفيلم تفاؤله ولم يبرره كذلك، حمل تقديرا كبيرا لكل اللحظات التي قادت الى لحظة التنحي وشكل كل واحدة منها بشعور ذي طبيعة إنسانية صرف ووضع لوحاته العشر كسلم تم الإرتقاء فوقه لنشاهد عمر سليمان وهو يقرأ الخطاب الشهير واللوعة تأكل قلبه، ولكن الفيلم كان مهتما أكثر بفرح الجماهير العفوي والتواق الى تغيير حاسم، ظهر فرح الجمهور وظهرت مشاعر "المخرجين" الذين أهملةا السياسة ولجؤوا الى ابسط الناس ليستعير ابتساماتهم ونزقهم وردات أفعالهم العفوية ليشكل لوحاته العشر بعد أن يرش فوقها بعض "الحماس الوطني".


(*) "18 يوم" فيلم مصري انتج عام 2011 ينتمي الى فئة الأفلام المستقلة، يتناول عدة قصص تدور حول ثورة 25 يناير وشارك فيه 10 مخرجين و 8 مؤلفين وعدد كبير من الممثلين المعروفين، ويتكون من 10 افلام قصيرة لكل منها مخرج ومؤلف وممثلون بشكل منفصل

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب