الجمعة 2017/07/07

آخر تحديث: 11:33 (بيروت)

الموجة الغرائبية: سينما الأزمة اليونانية؟

الجمعة 2017/07/07
increase حجم الخط decrease
كنا قد تجمعنا في بيت ثيوفلوس، الواقع في أحد الضواحي الشمالية لأثينا لمشاهدة التصفيات قبل النهائية من النسخة اليونانية من برنامج "سيرفايفر"، كما هي العادة في زياراتي للمدينة في الأعوام القليلة الماضية. لكن الفواصل الإعلانية التي تمتد لـ15 دقيقة، والتي كان يملأها عادة نقاش حول الأزمة المالية وتفاصيل شروط الاتحاد الأوروبي. مضيت هذه المرة في الحديث عن أمور أقل جدية، فثيوفلوس كان قد بدا عليه الإندهاش عندما أخبرته أنه من المنتظر أن تُختتم ليلتها جولة من المفاوضات بين اليونان والإتحاد الأوروبي حول دفعة أخرى من حزمة المساعدات المالية، قبل أن يهز كتفيه بلا أكتراث، ويخبرني: أنه حقاً لا يعرف، فقد توقف عن متابعة الأخبار.


لم يكن ثيوفلوس وحده، فمعظم من قابلتهم في زيارتي الأخيرة منتصف الشهر الماضي، كانوا ضئيلي الاكتراس بما يحدث على الساحة السياسية. لكن الحماس لـ"سيرفايفر"، البرنامج الأعلى مشاهدة، والذي تحولت حلقاته لمناسبة للقاءات الإجتماعية، والدعوات المنزلية الأسبوعية، لم يخفت على الإطلاق. فالبرنامج الذي يتباري فيه فريقان يقيمان في العراء، في عدد من التحديات البدينة على مدى أسابيع، تكون جوائزها طعاماً ومعدات تحسن فرصهم في الإستمرار في المنافسة، ربما يبدو مناسبا جدا لامزجة اليونانيين، في ظل الأزمة المالية التي تبدو بلا نهاية على الإطلاق. فإعادة إنتاج لقلق البقاء اليومي الذي يحاصرهم، في تلفزة منمقة تتركز على أجساد المتبارين المفتولة وقدراتها الاستثنائية ربما تكون ساحة للتعويض عن انتكاسات الواقع وهدفاً لتفريغ التوتر النهاري. لكن"سيرفافير"، بين غيره من برامج المسابقات الأميركية والأوروبية، في نسخها اليونانية، مثل "ذا فويس" و"ماستر شيف"، والتي تعتمد المنافسة بمنطق البقاء للأصلح، في تأكيدها على آليات الإصطفاء الطبيعي، ونقل الصراع على البقاء إلى مهارات الطهي، والصوت، والجسد وغيرها، لا يعود الهوس بها فقط كنتيجة للأزمة بل على العكش، فربما يكون هذا الهوس هو أحد جذورها.


في 23 من أبريل 2010، ظهر رئيس الوزارء اليوناني، يورغوس بابانديرو، على شاشات التلفزيون، ليلقي بياناً للأمة عن أزمة الديون اليونانية، مشفوعاً بالأرقام، وليعلن عن البدء في برنامج المساعدات الأوروبية، وما تضمنه من إجراءات تقشفية قاسية. لكن، وفي اليوم ذاته الذي دشنت فيه الأزمة رسمياً، كان فيلم "ناب الكلب" (Dogtooth) للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس، الفائز بجائزة "نظرة ما" في الدورة 62 لمهرجان "كان"، والذي رشح قبلها لجائزة الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي، قد بدأ عرضه في السينمات الأوروبية. كانت هذi المصادفة سبباً كافياً لنقاد السينما لينحتوا توصيفاً لسينما الأزمة اليونانية، وهو مصطلح "الموجة الغرائبية"، لكي يعتبروا "ناب الكلب" أول أفلام تلك الموجة. لكن الفيلم الذي بدأ إنتاجه قبل الأزمة بالتأكيد، وصرح مخرجه أكثر من مرة بأنها لم تكن في مخيلته عند إنتاجه، لا يمكن أن يكون نتاجاً للأزمة. لكن ما يتفق عليه لانثيموس، مع رفيقته، المخرجة أثينا تسانغاري، وهي من رواد الموجة الغرائبية أيضاً، هو أن الأزمة جذبت الإنتباه للسينما اليونانية، وبالأخص إلى موجة جديدة داخلها، والتي ليست بالضرورة من إنتاج مشكلة الديون، أو تبعاتها.

ربما لا يمكننا فهم "الموجة الغرائبية" سوى بالإحالة إلى برنامج "سرفايفر" والهوس به، ففي فيلمه الأنجح "الكركند" (The Lobster 2015) الناطق بالإنكليزية، يعتمد لانثيموس محاكاة غير مقصودة للبرنامج ومنافساته. ففي فندق ينقل إليه العزاب في المدينة، ينبغي على النزلاء العثور على شريك من الجنس الآخر بحسب قواعد صرامة وفي فترة لا تتجاوز 45 يوماً. وبينما ينتقل الفائزون إلى مكان أخر ليختبروا الحياة الزوجية مع شركائهم ومن هناك يطلق سراحهم لاحقاً إلى المدينة، فإن الفاشلين يتحولون إلى حيوانات تُطارد وتُقتل من قبل الراغبين في تمديد فترة بقائهم، في دورات مشتابكة من الصراع على البقاء معيارها هو الإندماج حسب قواعد اللعبة الوحشية.

وفي فيلم "شافلييه" لأثينا تساغاري، من إنتاج العام نفسه (2015)، تدور الأحداث في حيز معزول أيضاً. فاليخت الذي يضم ستة رجال في رحلة للصيد، يتحول مسرحاً للعبة يقرر الركاب التنافس من خلالها، حيث يتبارى كل منهم في إظهار مميزاته، ويقوم الجميع بتقييم بعضهم البعض من كافة النواحي، ليقرروا في النهاية الفائز والمؤهل للبقاء. وفيما تبدو معالجة "شافلييه" أكثر خفة من كوميديا  فيلم "الكركند" السوداء، فإن الفيلم لا يزال مقبضاً بكشفه عن مشاعر الخوف والقلق والتوتر المتضمنة في لعبة رجاله التنافسية، وتفاصيلها شديدة الذكورية.

لا تكتفي أفلام "الموجة الغرائبية" بالطبع فقط بمحاكاة "سيرفايفر" ومنطق منافسة البقاء للأصلح، فتيمات الإغتراب والعزلة والسلطة الأبوية، والحب المثلي، وتابوه الجنس، والذكورية تظل متضمنة بكثافة في إنتاجات مخرجيها. ففي مقابل موجة "العصر الذهبي" للسينما اليونانية في الفترة من الخمسينات إلى السبعينات من القرن الماضي، والتي ركزت على الإحتفاء بالهوية اليونانية وترسيخها معتمدة على معالجات لأعمال أدبية لكتّاب يونانيين كبار، واحالات للتراث الأغريقي، تبدو الموجة الأخيرة تمرداً على سابقتها، وعلى التحولات الجذرية التي شهدها المجتمع اليوناني وبلغت أوجها في فترة "العصر الذهبي".

فسياسة الدمج الرأسمالي لليونان المتسارعة والكثيفة، التي أعتمدها البريطانيون أولاً، ومن بعدهم الأميركيون، لمكافحة خطر الشيوعية الصاعدة في البلد الصغير، بعد الحرب، خلفت تناقضات حادة بين آليات السوق الرأسمالية التنافسية والإستهلاكية وبين قيم الأسرة الأبوية التقليدية والتقاليد المسيحية الأرثوذكسية المحافظة التي ما زالت راسخة في المجتمع اليوناني إلى اليوم. هكذا يبدو توصيف "الموجة الغرائبية" كسينما الأزمة غير دقيق بشكل كافٍ، فما تطرحه أفلامها، هو المعضلات السابقة للأزمة، والأوسع منها ومن تبعاتها الإجتماعية والفردية أيضا، كاشفة عن تناقضات حادة لم يتجاوزها المجتمع اليوناني، وعن اغتراب هو ميراث للهوس بقيم السوق الرأسمالية، ووعودها الإستهلاكية، مع نكوص عما تتطلبه من تحرر من البنية الإجتماعية التقليدية وقيمها.

انتهت حلقة "سيرفايفر" بانتصار للفريق الأضعف هذه المرة، وإن كانت تلك النتيجة غير مرضية لمعظم ضيوف ثيفولوس، فإنه اختتم الليلة بشرح طريقة تشغيل الأجزاء المتعددة لماكينة الكي المنزلي شديدة التعقيد التي اشتراها قبل أيام، وهو يكرر بكثير من الفخر: "هذه ليست مكواة، هذا نظام متكامل للكيّ، وهي مكلفة جداً أيضاً". 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها