الإثنين 2017/07/31

آخر تحديث: 12:03 (بيروت)

نيّرة ونادية:وجهان لحرب واحدة؟

الإثنين 2017/07/31
نيّرة ونادية:وجهان لحرب واحدة؟
نادية لا تمشي وحدها، هناك من يكتب لها خطاباتها
increase حجم الخط decrease
-1-
بعد يومين تحل الذكرى 27 للغزو العراقي للكويت، التي تنغص علينا حياتنا، نحن العراقيين، في كل آب منذ العام 1990. رغم ما مرّ بهِ البلد بعد هذا الغزو من خراب اقتصادي واجتماعي ودمار البنية التحتية، مروراً بسنوات الاحتلال الأميركي والحرب على الإرهاب وآثارهما، فإن معظم العراقيين يتفقون على أن ما كان سبب هذا الخراب بشكلهِ الحالي هو حماقة ارتكبها ديكتاتور ودفع ثمنها الشعب. مَن وُلِد في السبعينات وبداية الثمانينات، لا بدّ وأنه يحتفظ بذاكرة طازجة عن تلك الحقبة. بالنسبة اليّ، لم أكن أفهم ما يحدث حقيقةً إلى أن سقط أول صاروخ على أرض العراق، ونفذت أميركا وقوات التحالف وَعيدَها. كنتُ مثل الآلاف من الجيل الشاب، يتطلعُ أن يتراجع "القائد الأوحد" عن حماقتهِ وعناده الغبي ويجنبنا ويلات حرب غير مبررة وغير متكافئة، دمرت البلاد خلال أسابيع وهدمت كل ما بنتهُ الدولة العراقية الحديثة منذ تأسيسها. لم تكن أميركا بحاجة إلى مبررات لشن هجوم على العراق أكثر من غزو واحتلال دولة مستقلة ومعترف بها دولياً. مع ذلك، شهدت مرحلة التحضيرات للحرب تدليساً اعلامياً لإضفاء الشرعية "المستحقة" عليها. من هذا التدليس الذي كُشف عنه الغطاء في ما بعد، شهادة فتاة عُرفت باسم مستعار "نيّرة" تتحدث الانكليزية بطلاقة، مدعية أنها قادمة من الكويت للتو وبدأت تروي ما شاهدتهُ من إجرام لعناصر الجيش العراقي وهم يقتلون الأطفال الخدج وسرقة الحاضنات من المستشفيات. أجهشت نيرة بالبكاء بعد لحظات من بدء قراءة شهادتها أمام الكونغرس لحقوق الإنسان، التي يبدو أنها تدربت عليها بشكل جيد، وأبكت معها من في القاعة. كان ختام تلك الجلسة حسم قرار الحرب، واستخدام الرئيس بوش الأب قصة الحاضنات في كل مرة، كان يبرر فيها الحرب من أجل دعم أكثر. ويتضحُ في ما بعد أن الآنسة الصغيرة "نيرة"، ما هي إلا ابنة السفير الكويتي في الولايات المتحدة، ولم تكن شاهدة على شيء مما قالتهُ، بحسب تقارير دولية بعد تحقيقات أجريت في الموضوع، ما جعل منظمة العفو الدولية تتراجع وتعتذر عن قرارها في إدانة الجريمة، واتهمت شخصيات أميركية ممن تبنوا شهادة الفتاة وروجوا لها بتضليل الرأي العام.

أول ما تبادر إلى ذهني وأنا اقرأ خبر زيارة الفتاة العراقية الأيزيدية نادية مراد إلى اسرائيل مؤخراً، ومشاركتها في مؤتمر خاص لإدانة جرائم داعش في الكنيست، هو شهادة نيّرة وهل كانت أميركا بحاجة إلى شهادة مفبركة لتدعم وتشرعن حربها على العراق؟ هل كانت مراد بحاجة إلى إسرائيل لإثبات جرائم داعش تجاه أبناء "جنسها"؟ كان عمر نيرة عند ظهورها في حدود الخامسة عشر، أي أنها قانونياً لم تكن مسؤولة عن "كذبتها" بشكل مباشر، بل والدها الذي أعد كل شيء بالتعاون مع شخصيات أميركية مدفوعة الأجر، بحسب وثائق عثر عليها لاحقاً. لكن شهادة نادية لم تكن مفبركة ولم تكن كذبة، لماذا يحتاج مجلس الأمن واسرائيل شهادة ووجه مراد لإدانة جرائم داعش؟ ألم تكن الصور والأفلام التي وثقت لتهجيرهم وقتلهم وخطفهم وعرضهم للبيع في سوق النخاسة كافياً للإدانة؟ ألم تكن شهادات عشرات الناجيات اللواتي وصلن كردستان وأوروبا كافية لحسم أمر الحرب على داعش؟

-2-
في كل حرب وانتهاك يظهر صوت من بين الركام، كي يكون صوت من لا نسمعُ لهم تحته. ونادية مراد كانت، لفترة، صوت بنات قريتها وطائفتها. كانت شهادة نادية أمام مجلس الأمن كفيلة بتعريف العالم على ما ترتكبه داعش داخل ومحيط مدينة الموصل. كانت شهادة واقعية ومتزنة وعادلة عرضت القضية من عين شاهدٍ عاش الظلم في أقصى درجاتهِ. 

شابة بسيطة، ربما لم تكمل تعليمها مثل مئات الفتيات في القرى والضواحي، وربما لم تغادر قريتها من قبل أو تعرف كيف هو شكل العالم الخارجي، فجأة تجد نفسها في فيلم رعب من إعادة شريط الجرائم التاريخية واقعياً باسم الدين. صارت "سبية" وأَمة تناوب عليها المغتصبون باسم استحقاق غنائم الحرب، ونحن في العام 2014! بعد نجاحها في الفرار من قبضة داعش، وقبل أن تمر بفترة علاجية وتأهيلية مما واجهته من بشاعة في انتهاك جسدها ونفسيتها، وجدت نفسها هذه المرة تحت الأضواء ملقى عليها مسؤولية ضخمة في إيصال صوت من تعرضوا للسبي والإبادة. لا أعتقد أنه كان من السهل عليها بعد ما تعرضت لهُ، أن تقف على قدميها وتحاول من جديد استعادة حياتها وحياة الآخرين ولو بشكل آخر. نادية لا تمشي وحدها، هناك من يكتب لها خطاباتها، التي تلقيها في المؤتمرات والتجمعات بلغة عربية ركيكة، وهناك فريق كامل يعمل خلفها لتنسيق برامج زياراتها ومشاركاتها، حالها كحال أي شخصية ناشطة مهمة في العالم. من الطبيعي أن يكون لها فريق عمل يكتب لها، بل حتى يؤلف كتابها الذي صدر باسمها. فهي لا تمتلك من الثقافة والتعليم ما يكفي ليؤهلها إدارة شؤون نشاطها بنفسها. لكنها تملك وجهها الحزين والمُحبط، وقصتها التي لا يستطيع أحد أن يرويها نيابة عنها. وهذا ما كانت "أزمة الايزيديين" بحاجة إليه أساساً، ليس أكثر.

بررت نادية في تصريح لها، زيارتها إسرائيل، أنها سفيرة للسلام وتقع على عاتقها تلبية الدعوات التي تحارب الارهاب والظلم ودعم الحالات الإنسانية. وأضافت أن موقفها محايد من القضايا والصراعات الدولية! وظلت تكرر أن عملها انساني، وستبقى تركز عليه حتى لو كان في إسرائيل. تناست نادية تماماً وهي تصرح بما يمليه عليها فريقها، أنها لم تكن حيادية تجاه "قضية أبناء جنسها" كما تحب أن تسميهم، ولم تكن محايدة تجاه محرقة الهولوكوست، التي ما زالت إسرائيل تعتاش عليها حتى يومنا هذا، هذا في تبريرها لانتهاكاتها في حق الفلسطينيين. وأية عدالة تتوقع مراد أن تنال قضيتها في إسرائيل، ولماذا صارت محايدة فقط تجاه القضية الفلسطينية، إن كانت تعلم أساساً ما هي القضية؟

برر كثير من العراقيين زيارة نادية بفشل الحكومة العراقية في احتواء أزمة الإيزيديين، حيث لم يتم التوصل حتى الآن إلى حل مشاكل النازحين، وعلاج الناجيات من الأسر. وبرر آخرون أسباب "كراهيتهم" المعلنة تجاه الفلسطينيين وقضيتهم، بضلوع عدد غير قليل منهم في عمليات انتحارية استهدفت العراقيين. وآخرون اتهموها أنها ممولة من منظمة كبيرة تشكلت في فترة قياسية تنفذ أجنداتهم التي تخدم كردستان واسرائيل، مع العلم أن موقف حكومة كردستان من أزمة الأيزيديين، لا تقل احباطاً عن موقف الحكومة المركزية. ولا أعتقد أن نادية تعرف ما تعنيه كلمة أجندات أو مخططات مستقبلية للمنطقة، كما لم تكن "نيرة" تعلم أن شهادتها الكاذبة، ستضع والدها في موقف لا يحسد عليه وهو يواصل الإصرار على الكذب حتى بعد فضحهِ علناً، حتى توارت "نيرة" ولم تعد وجهاً أعلامياً تحتاجه الحرب بعد ذلك.
-3-
رغم أنه لا مقارنة بين وجه "نيرة" المفبرك ووجه "نادية مراد" الصادق، إلا أنهما تمثلان بشكل ما، سياسة أميركية واحدة؛ أي الحاجة إلى وجه من وجوه الحرب لاستمرارها وليس بحثاً عن السلام كما يحلم أصحابها. لا أحد يستطيع التشكيك في نوايا نادية، الصادقة، في البحث عن العدل والإنصاف لأهلها، وهذا من حق كل من يتعرض لاضطهاد الأغلبية، تحت أي مسمى كان. ولا أحد يستطيع إنكار عراقية الإيزيديين الذين عملوا في بناء البلد منذ قرون. لكن، كي لا نحصر أزمة الإيزيديين في ما فعله داعش وزيارة نادية إلى إسرائيل، على الحكومة العراقية احتواء قضيتهم، التي هي قضيتنا جميعاً، بشكل فعلي وليس خطابياً، كما اعتادت أن تفعل في القضايا المصيرية للبلاد، حيث تثبت فشلها يوماً بعد آخر.

وليكن خطابنا هنا صريحاً وحاسماً، في أن زيارة نادية أو من خطط لها، إلى إسرائيل هو حق يراد به باطل. الفتاة لا تمثل نفسها، كما تدعي، كونها سفيرة للسلام وناشطة حقوق عالمية، بل تمثل الجهة التي تخطط لها برنامجها، لكنها لا تعي. وهذا واضح من حواراتها المعدة لها سابقاً حيث لا تملك الكثير مما تقوله سوى ما تكرره في المحافل. حتى من يتخذ موقف الحياد من قضية ما، يجب أن يكون ملماً بها وبحيثياتها، فالحياد موقف أيضاً. لكن نادية لا تعلم وتجهل هذه المصطلحات والمعرفيات السياسية والتاريخية. فلا أعرف، هل يجوز لنا أن نضعها تحت المجهر ومهاجمتها ونعتها بشتى عبارات التخوين والعمالة؟

هذه نقطة جدلية لطالما واجهناها في مجتمعات ينتشر فيها الجهل والأمّية وظروف الحرب المدمرة. في المقابل، كان القانون حاسماً في هذه الحالة، إذ لا يحمي "المغفلين"! و"المغفلون" هنا لا تعني الأغبياء بالضرورة، بل من غفل عن جوهر وحقيقة أمر، لأسباب مختلفة.

نادية لن تتوقف عن زيارة إسرائيل، إذا تطلب الأمر منها هذا مرة أخرى، فهي زارت السيسي، قامع الحريات والانتهاكات الإنسانية في سجون مصر، وزارت مفتي الأزهر الذي لم يخرج علينا يوماً بتصريح واضح، يدين فيه جرائم داعش باسم الدين الإسلامي وظلت خطاباته مطاطة ومترنحة، وتبنى قضيتها اليمين المتطرف في النرويج وبعض الدول الأوروبية التي زارتها. لا أعتقد أساساً أنها تعي نتائج زياراتها سوى ما تنتظره من ثمرة إحقاق الحق الذي تسعى إليه.

على نادية وعلينا جميعاً، أن نعي أن لا عودة للموصل ونينوى بدون انصاف الآيزيديين وعودتهم. لا عودة للموصل ونينوى إلى حضن العراق من دون عودة أهلها المسيحيين، أسوة بالمسلمين ممّن لم تتلطخ أياديهم بدماء الأبرياء، وكانوا ضحايا داعش أيضاً. ولا عودة لكل هؤلاء في دائرة "وطنية"، من دون عودة السلطة للشعب العراقي متمثلة في حكومة نظامية منتخبة، تمثل الجميع، بعيداً من الانقسام الطائفي والمناطقي. ومن دون كل هذا، فإن "مشروع التقسيم" متأهب لاصطياد وجوه موازية لوجوه الحرب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها