الإثنين 2017/07/03

آخر تحديث: 12:09 (بيروت)

إلى صديقتي المسيحية المحجبة

الإثنين 2017/07/03
إلى صديقتي المسيحية المحجبة
ألا يعلم العراقيون أن التبني وظيفة غير صالحة إلا لمن امتلك المزايا والمقدرات؟
increase حجم الخط decrease
تنفسّتُ الصعداء، أو هكذا يحلو للغة العربية أن تصف إحساسي لحظة إزاحة صخرة كبيرة كانت جاثمة على صدري. هذا كان إحساسي وأنا أنصت وأتابع الأخبار تباعاً عن معارك الموصل في الجانب الأيمن: أعلنت القوات العراقية المشتركة تحرير المدينة بالكامل...


للسعادة أسباب كثيرة في ما يتعلق بتحرير الموصل، أحدها: أنني سأتوقف عن الكتابة عن الألم الموصلي والتغريبة "النينوية" لبعض الوقت. وسبب آخر، هو تفكيري المستمر بنساء وأطفال المدينة وما حل بهم. لم استوعب بعد حجم الكارثة التي لحقت بأطفال ونساء المدينة. الأرقام مخيفة، خاصة لأطفال ضاعوا أو اختطفوا أو يُتّموا ولا مأوى لهم سوى مخيمات الحزن.

قبل فترة، عرض الجنود مقطع فيديو لطفلة رضيعة، لم يتبق من أهلها أحد سواها. كان الفيديو يعرض الطفلة للتبني وكان هناك متبنٍّ تعهد بالتكفل بها!

هكذا، بكل سهولة جرت عملية تبني طفلة من دون أي اجراءات قانونية أو متابعة لأصل الطفلة وربما التوصل إلى أقاربها. ألا يعلم العراقيون أن للتبني ضوابط صارمة وهي وظيفة غير صالحة للكل إلا من امتلك المزايا والمقدرات ليكون مؤهلاً لها؟ بغض النظر عن النية الطيبة التي يقوم بها هؤلاء لإيواء الأطفال، يجب أن تكون هناك منظمة حقوقية جادة تتابع هؤلاء الأطفال، خاصة بعدما صار عددهم بالآلاف.

في ضجة الأخبار المتواردة والمتباينة، كانت أول من خطر في بالي بعد تأكيد أخبار التحرير هي صديقتي المسيحية وزميلتي في العمل. كانت تقيم هي وعائلتها الصغيرة في فيلا كبيرة توارثوها أبّاً عن جدّ في الجانب الأيمن القريب من المدينة القديمة. صديقتي كانت تعتبر نفسها عراقية عربية، ولم تُجِد من اللغات سوى العربية ولهجتها الموصلية القُح. في العام 2007، تعرضت شريحة واسعة من المسيحيين للقتل والخطف والتهديد. وهذا الحال كان يتكرر مع كل موعد قريب للانتخابات. ذات يوم، وأنا في طريقي إلى العمل، حيث أخطر مكان يتصوره الواحد أن يكون، لاحظتُ امرأة ترتدي وشاحاً على رأسها تتقدمني بخطوات على الطريق نفسها. عندما اقتربتُ منها وجدتها زميلتي المسيحية. خلعت الوشاح بمجرد دخولها مبنى المؤسسة. ظلت طوال ساعات العمل هائمة على نظرات من الريبة والحيرة. كانت مثل نساء وفتيات مسيحيات كثيرات، بدأن ارتداء الوشاح "الحجاب" كي يتجنبن تمييزهن من "المسلمات" وبالتالي خطفهن. تمحور حديثها كله حول كيفية حماية بناتها الأربع وهن في طريقهن إلى مدارسهن! كيف تستطيع الاطمئنان إلى الجوار وهي تواصل العمل مع موظف لا يأكل مما تجلبه من طعام، فذلك حرام بحسب معتقداته؟ كيف ستشعر بالراحة في العمل وهناك من يناقشنا أمامها عن جواز قتل المرتد ومصير غير المسلم؟! في كل مرة عندما كنت أرى هذه الممارسات تجاهها، من الذكور تحديداً، كنتُ أشعر بغضب في داخلي ولا أعرف كيف أرد أو أحاول أن أعتذر نيابة عنّا جميعاً. ما زلتُ أحتفظ بنظرتها القاتلة في قلبي عندما علق أحد زملاء العمل، من الموصليين المتشددين، بعد قتل وخطف مسيحيي المدينة بعبارة: يستاهلون!

ما زلتُ أشعر برعبها "ينخسني" تحت جلدي ووجه الموظف الذي لا يغادرني وهو يقولها بكل فخر وفوقية. ما زلتُ نادمة على لحظة الصمت في ساعة عجز وقهر. كنت وقتها قد خرجتُ للتو من تجربة مريرة لفقدان أحد أفراد عائلتي على يد جماعة مسلحة كانوا يمثلون "القاعدة" قبل تغيير اسمهم إلى "تنظيم الدولة/داعش". كنتُ أضعف من أن أواجه مصير من فقدتهم أو أعرّض أولادي للمصير ذاته. أمام أزيز رصاص الغدر، لا صوت يمكنهُ أن يعلو حتى لو بالحق. آمنت باليأس كخيار أو مصير مؤقت، وبئس ما آمنت.

أصبحت زميلتي ترتدي الوشاح بشكل يومي، وتحاول أن تختار ملابس طويلة، وهي المعتادة على متابعة الموضة وارتداء ما يحلو لها من جديد التصاميم. صارت، هي وزوجها، يرافقان بناتهما إلى المدرسة ذهاباً وإياباً، من دون ترك مسافة واحدة بينهم وبين يد الغدر. الرعب والقهر والخذلان في عينيها كان محفزاً كبيراً لي بحسم أمري أخيراً في مغادرة المدينة وإلى الأبد. غادرت وتركتها ورائي أفكر فيها وفي حالها. كلما كنتُ أتصل بها وأدعوها إلى المغادرة حفاظاً على حياتها وحياة عائلتها كانت تقول:
- أين نذهب؟ هذه مدينتي ولا نعرفُ أرضاً لنا سواها.

كان في إمكان صديقتي أن تهاجر مثل آلاف المسيحيين الذين بدأوا هجرتهم مبكراً منذ منتصف الثمانينات، عندما شعروا أنه لم يعد لهم مكان بيننا، بعدما تم اضطهادهم بأشكال شتى، منها التمييز العنصري في الوظائف والمناصب وامتيازات المواطن في القضاء وقوانين البلد، لكنها آثرت البقاء. رغم أن المدينة لم تشهد جريمة فعلية تجاههم، كان هناك تعامل عنصري واضح، لم تستطع قوانين البلد والدستور حمايتهم منها. في آواخر 2008 تزايدت جرائم الخطف والقتل بحق المسيحيين. علمتُ بوضع زميلتي الصعب وأنها لم تعد قادرة على الخروج من البيت. اتصلتُ بها هاتفياً ودعوتها أن تشاركني بيتي المتواضع في أربيل - شمالي العراق، إلى أن يجدوا مخرجاً، فجاءني صوتها الحائر والمرتبك ذاته، بأنها تعيش حالياً في حماية جيرانها القدامى وقد تعهدوا لها ولعائلتها أن يوفروا لهم الحماية كما لو كانوا عائلتهم. كان شباب الجيران يسهرون ليلاً في مراقبة الشارع تحسباً لأي هجوم من الجماعات المسلحة أو محاولة اقتحام بيت الصديقة وخطف أحد أفراد عائلتها أو إيذائه. وفوا بوعدهم كما علمت لاحقاً.

انقطعتُ عن العراق وانقطعت أخبارها، ولا أعرف ما حل بها وعائلتها ولا أدري ما حل بطاقم فريق المؤسسة التي عشنا لحظات ترقب الموت في كل لحظة ونحن في مواجهة بوابة سنحاريب من الأمام وثكنات الشرطة والأمريكان والسيارات المفخخة من الخلف.

قبل يومين، سمعتُ زغرودة لسيدة عراقية في التلفزيون، كانت قد نذرتها في حال تحرير الموصل، تمنيتُ لو اتصل بصديقتي وأزغرد وأقول لها: الموصل بلا داعش.. مزقي حجاب القهر وامحي أثرهم الدموي بهِ.

انتهت المعارك لكن الحرب لم تنتهِ. حربنا المقبلة هي حفظ الدرس بكل تفاصيله والا نغفل تفصيلة واحدة. حربنا المقبلة مع فكر متطرف وذكوري يلبس ثوباً غير ثوب "داعش"، وينتشر بيننا مثل السرطان الخبيث. حربنا المقبلة هي إعادة تأهيل أطفال المدينة ونسائها وشبابها ممن تعرضوا لشتى أنواع العنف والاضطهاد وغسل الدماغ. معركتنا المقبلة مع أنفسنا وكيف نستوعب ما حدث وآلية التعامل معه. أمامنا طريق طويل غير معبد بالأمل، لكنه غير معبد باليأس أيضاً.. كل ما نقدر أن نفعله الآن هو أن نواصل المسير ونعبّد الطرق بالأمنيات.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها